0 / 0
6,74515/08/2021

كيف نجمع بين الإصرار على تبليغ الدعوة وبين الإعراض عن الجاهلين؟

السؤال: 323155

قال الله عز وجل : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ، والذي فهمته من تفسير الإعراض عن الجاهل هو أنه على المسلم أن يعرض عن الشخص الجاهل الذي يرفض قبول الحق، طالما إنه مستمر في رفضه للحق، لكنني تعلمت من قصص الأنبياء أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانو يصرون على دعوة قومهم إلى الله تعالى، فكيف كان الأنبياء يجمعون بين الإعراض عن الجاهل وبين الإصرار على تبليغ الرسالة؟ فقد قال نوح عليه السلام : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، فكيف الجمع بين الإعراض عن الجاهل وبين الإصرار على تبليغ الدعوة؟

الجواب

أولاً:

لا تعارض بين الإعراض عن الجاهلين والدعوة إلى الله

يقول الله تعالى:   خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ   الأعراف/ 199 .

وهذه الآية جامعة لخصال الخير، ففيها أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن اقتدى به من أهل الإيمان: أن يأخذوا ما سهُل من أخلاق الناس، وأن يتركوا الغلظة في التعامل معهم، وأن يأمروا بالمعروف ؛ وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوْ نَدَبَ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْعُرْفِ "  تفسير الطبري" (10/ 644) .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: أن يعرض عن الجاهلين، والإعراض هنا: يقتضي أن يحلُم عنهم، وأن يحتمل أذاهم، إلا من أبى وعاند فإنه يجب عليه أن يحاربه، وأن ينصر دين الله تعالى .

يقول "مكي بن أبي طالب": " قال بعض أهل المعاني: في هذه الآية بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أُوتيتُ جَوَامِعَ الكَلاَمِ ".

فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة، وفوائد عظيمة، وجمعت كل خُلُقٍ حسن ؛ لأن في " أخذ العفو ": صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين.

وفي " الأمر بالمعروف ": تقوى الله ( عز وجل)، وطاعته ( جلت عظمته )، وصلة الرحم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن الحُرُمات .

وسُمِّيَ ذلك وَنَحْوَهُ " عُرْفاً " ؛ لأن كل نفس تعرفه وتركن إليه .

وفي " الإعراض عن الجاهلين ": الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مخالطة السفيه، ومنازعة اللَّجُوج، وغير ذلك من الأفعال المَرْضَيَّةِ " انتهى من "الهداية" (4/ 2687).

… فقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين، مُحْكَمةٌ، وهي: أُمر بالاحتمال واللِّين، وليس معناها ترك الدعوة إلى الله .

قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (30/ 370): " وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ النَّاسِ: إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا مَعَهُ غَيْرَ مَا يُحِبُّ، أَوْ مَا يَكْرَهُ .

فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يُحِبُّ، مَا سَمَحُوا بِهِ، وَلَا يُطَالِبَهُمْ بِزِيَادَةِ.

وَإِذَا فَعَلُوا مَعَهُ مَا يَكْرَهُ: أَعْرَضَ عَنْهُمْ .

وَأَمَّا هُوَ: فَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ " انتهى.

فلا تعارض بين الإعراض والدعوة إلى الله كما تبين .

قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (1/ 276): " ومن هذا قولُه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، ليس المرادُ به إعراضَه عمَّن لا علم عنده، فلا يعلِّمه، ولا يرشدُه؛ وإنما المرادُ إعراضُه عن جهل من جَهِلَ عليه منهم، فلا يقابلُه، ولا يعاتبُه" انتهى .

وقال في "التبوكية" (88): " واقفًا عند قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)، متدبرًا لما تضمنتْه هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقِّ اللهِ فيهمِ، والسلامة من شرهم .

فلو أخذ الناسُ كلُّهم بهذه الآية: لكفَتْهم، وشَفَتْهم.

فإن العفو: ما عَفَا من أخلاقهم، وسَمَحَتْ به طبائعهم، ووَسِعَهم بذلُه، من أموالهم، وأخلاقهم؛ فهذا ما منهم إليه .

وأما ما يكون منه إليهم: فأمرهم بالمعروف، وهو ما تَشهدُ به العقولُ، وتَعرِفُ حُسْنَه، وهو ما أمر الله به .

وأما ما يَتَّقِيْ به أَذَى جاهِلهم: فالإعراضُ عنهم، وتركُ الانتقامِ لنفسه والانتصارِ لها .

فأيُّ كمالٍ للعبدِ وراءَ هذا ؟

وأي معاشرة وسياسة للعالَمِ، أحسنُ من هذه المعاشرة والسياسة ؟

ولو فكَّر الرَّجلُ في كل شرٍّ يَلحقُه من العالم – أعني الشرَّ الحقيقيَّ الذي لا يُوجِبُ له الرِّفعةَ والزُّلفَى من الله – وَجَدَ سببَه الإخلالَ بهده الثلاثِ أو ببعضِها، وإلا فمع القيام بها، فكل ما يَحْصُلُ له من الناس، فهو خيرٌ له وإن كان شرًّا في الظاهر، فإنَّه متولِّدٌ من القيامِ بالأمر بالمعروف، ولا يتولَّدُ منه إلا خيرٌ، وإن وَرَدَ في حالةِ شرٍّ وأذًى ؛ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وقال تعالى لنبيه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ .

وقد تضمنتْ هذه الكلماتُ مراعاةَ حقِّ اللهِ، وحقِّ الخَلْقِ ؛ فإنهم إمّا أنْ يُسِيْئُوا في حقِّ اللهِ، أو في حقِّ رسولِه ؛ فإن أساءوا في حقِّك، فقابِلْ ذلك بعَفْوِكَ عنهم، وإن أساءوا في حقِّي، فاسألني أغفِرْ لهم، وأَسْتَجْلِبْ قلوبَهم، وأَسْتَخْرِجْ ما عندَهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتِهم وبِذْلِهم النصيحةَ، فإذا عَزَمْتَ على أمرٍ فلا استشارةَ بعد ذلك، بل توكَّلْ على اللهِ، وامْضِ لما عَزَمْتَ عليه من أمرِك ؛ فإن الله يُحِبُّ المتوكلين " انتهى.

وقال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 532):

" قَالَ [ابن جرير]: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ . وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ .

وَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لِخُلُقِهِ، بِاحْتِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ جَهِلَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مَنْ حَقَّ اللَّهِ، وَلَا بِالصَّفْحِ عَمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَهِلَ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبٌ .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ قَالَ: هَذِهِ أَخْلَاقٌ أَمَرَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّهُ عَلَيْهَا .

وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى، فَسَبَكَهُ فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ:

خُذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بعُرفٍ كَمَا … أُمِرتَ وأعْرض عَنِ الجَاهلينْ

وَلِنْ فِي الكَلام لكُلِّ الْأَنَامِ … فَمُسْتَحْسَن مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينْ

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّاسُ رَجُلَانِ: فَرَجُلٌ مُحْسِنٌ، فَخُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَلَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا مَا يُحْرِجُهُ .

وَإِمَّا مُسِيءٌ، فَمُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ تَمَادَى عَلَى ضَلَالِهِ، وَاسْتَعْصَى عَلَيْكَ، وَاسْتَمَرَّ فِي جَهْلِهِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا أَيْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ:34-36] "انتهى .

ثانيًا:

المراد بالجاهلين في آية (وأعرض عن الجاهلين)

قال "ابن الجوزي" في "زاد المسير" (2/ 181): " وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قولان:

أحدهما: أنهم المشركون، أُمر بالإِعراض عنهم، ثم نُسخ ذلك بآية السيف .

والثاني: أنه عام فيمن جهل، أُمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم .

وهذه، الآية عند الأكثرين: كلها محكمة "انتهى .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android