من المعلوم أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث الأصل أنه على طهارة سواء خارج الصلاة أو داخلها، فكيف يرد على من قال: إنه خاص بالصلاة، واستدل بحديث عن عبدالله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه: ” أنه شُكِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)؛ متفق عليه، حيث قال جاء في الحديث لفظة في الصلاة، وفي تفيد الظرفية، وجاء في الحديث شكي تفيد أنه يكثر مع الشخص كثير، وهذا لا يلتفت إليه؟
ما حكم من تيقن الطهارة وشك في الحدث خارج الصلاة؟
السؤال: 326091
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: ( لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) رواه البخاري (137)، ومسلم (361).
فهذا الحديث أخذ منه جماهير أهل العلم أن الشك غير معتبر؛ فلا يؤثر في اليقين السابق، فمن تيقن الطهارة، فلا يؤثر فيه ما قد يتبعه من الشك في الحدث، سواء حدث ذلك الشك في الصلاة أم قبلها .
ولذا بوّب عليه البخاري بقوله: ” بَابُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ “.
قال النووي رحمه الله تعالى:
” وقوله صلى الله عليه وسلم: ( حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ): معناه يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم، بإجماع المسلمين.
وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها.
فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث، وهي: أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث: حكم ببقائه على الطهارة.
ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة، وحصوله خارج الصلاة؛ هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف ” انتهى من “شرح صحيح مسلم” (4/49).
أما المالكية: فإنهم يوجبون الوضوء على من شك في الحدث قبل الصلاة دون من شك أثناءها .
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
” ما روي أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ( … فإذا كان يصلي، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ).
وليس هذا بخلاف لقوله في المدونة: من أيقن بالوضوء وشك في الحدث: انتقض وضوؤه.
لأن الشك طرأ عليه في هذه المسألة بعد دخوله في الصلاة، فوجب ألا ينصرف عليها إلا بيقين- كما جاء في الحديث.
ومسألة المدونة: طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب ألا يدخل فيها إلا بطهارة متيقنة- وهو فرق بَيِّن.
وقد روى سحنون عن أشهب في أول سماعه خلاف هذا، في هذه المسألة: أن صلاته باطلة… ” انتهى من “البيان والتحصيل” (2/6).
وقد أجاب جمهور العلماء على هذا ؛ بأنه لا فرق بين حصول الشك أثناء الصلاة أو قبلها .
فإنه لا فرق بين الحالين فيما يُبطل الوضوء ، وقد اعتمد المالكية أنفسهم على التسوية بين الحالين في ردهم على الحنفية الذين يقولون بأن القهقهة في الصلاة تبطل الوضوء، وإذا كانت قبل الصلاة فلا تبطل الوضوء .
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
” والذي يدل على صحة العلة، في الأصل: الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتأثير وشهادة الأصول.
والتأثير: هو أن يعدم الحكم بعدم العلة في موضع ما.
وشهادة الأصول: هو مثل أن يستدل المالكي على الحنفي بأن القهقهة لا تنقض الوضوء في الصلاة، كما لا تنقضه قبل الصلاة؛ كالكلام.
فيطالَب عن صحة العلة؟
فيقول : الأصول متفقة على التسوية بين الأمرين ” انتهى من “المقدمات الممهدات” (1 / 40).
وأما نص الحديث على الشك داخل الصلاة: فلا يعني تخصيص الحكم بذلك ، لأن الحديث جاء ردا على سؤال بخصوص الصلاة، فكان الجواب مطابقا للصورة التي سأل عنها السائل .
قال الحافظ ابن حجر:
” قوله: ( فِي الصَّلاَةِ ) تمسك بعض المالكية بظاهره، فخصوا الحكم بمن كان داخل الصلاة، وأوجبوا الوضوء على من كان خارجها، وفرقوا بالنهي عن إبطال العبادة!!
والنهيُ عن إبطال العبادة متوقفٌ على صحتها؛ فلا معنى للتفريق بذلك؛ لأن هذا التخيل إن كان ناقضا خارج الصلاة، فينبغي أن يكون كذلك فيها، كبقية النواقض” انتهى من “فتح الباري” (1 / 237 – 238).
وقيد المالكية أيضا عموم الحديث بوجه آخر، فلم يحملوه على “عموم” من “شك” في صلاته؛ وإنما قيدوا ذلك بمن كان كثير الشك.
جاء في “المدونة” (1/122):
” قلت لابن القاسم: أرأيت من توضأ، فأيقن بالوضوء، ثم شك بعد ذلك فلم يدر أحدث أم لا وهو شاك في الحدث؟
قال: إن كان ذلك يَسْتَنْكِحُه كثيرا؛ فهو على وضوئه، وإن كان لا يستنكحه فليُعد وضوءه ، وهو قول مالك.
وكذلك كل مُسْتَنْكِحٍ مُبتلى في الوضوء والصلاة ” انتهى.
وجاء في ” شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب” (1/428):
” قوله: ( يخيل اليه أنه يجد الشيء فى الصلاة ) وبه حمل على المستنكح ” انتهى.
قال الحطّاب في “مواهب الجليل” (1 / 466):
” المستنكح: هو الذي يشك في كل وضوء أو صلاة ، أو يطرأ له ذلك في اليوم مرة أو مرتين ، وإن لم يطرأ له ذلك إلا بعد يومين أو ثلاثة، فليس بمستنكح ” انتهى.
وليس في الحديث ما يدل على أن هذا في المبتلى بكثرة الوسواس في الطهارة ، بل ورد في حديث أبي هريرة ما يدل على عموم هذا الحكم لكل شاك ، من غير تخصيصه بالمبتلى بكثرة الشك.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) رواه مسلم (362).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” وحمل بعضهم الحديث على من كان به وسواس، وتمسك بأن الشكوى لا تكون إلا من علة. وأجيب: بما دل على التعميم، وهو حديث أبي هريرة عند مسلم ولفظه: ( إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) ” انتهى من “فتح الباري” (1 / 238).
فالحاصل؛ أن مجرد الشك في الحدث لا يؤثر في الطهارة المتيقنة ، سواء داخل الصلاة -لحديث عبد الله بن زيد- أو خارجها؛ لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين؛ ولأن الأصل في الشك أن يلغى ولا يعتمد.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب