أعمل مدرسًا بإحدى المعاهد الفنية العليا، يشتكي مني بعض الطلاب وخصوصًا الإناث من حدة تعاملي معهم؛ لحزمي في التعامل، وعدم تهاوني فيما يتعلق بالمحاضرات، والالتزام بها، وتقديم الفروض، وما إلى ذلك، ففي إحدى المرات طلبت من الطلاب تقييم شخصي لي كمعلم؛ قرأت آراءهم، فمنهم من قال: إني مغرور، ومتكبر، ولا أبالي بمصلحة الطالب، ومنهم قال لي: حسبي الله ونعم الوكيل، ومنهم من قالت: إنها دخلت في غيبوبة؛ نتيجة لخوفها من امتحاني، ومع العلم أني أحاول قدر استطاعتي ألا أظلم أحدًا، وأن يأخذ كل ذي حق حقه وزيادة، وأن أميز المجتهد عن غيره. السؤال هنا: يقول الرسول الكريم فيما معناه: (حُرم على النار كل هين لين قريب من الناس)، فأخاف بعد ما ذكرت لكم أن لا أكون هينًا لينًا، فأرشدوني إلى الخير.
صرامة المعلم في معاملة طلابه في الحضور والاختبار، هل تخالف خلق اللين والسماحة؟
السؤال: 374646
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الواجب في المعاملات هو العدل.
قال الله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ المائدة/8.
وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ النساء/58.
وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ النحل/90.
ومن العدل في مسألتك هو أن تعامل الطلاب وفق العقود والشروط المكتوبة والمتعارف عليها بين المعهد وبين من يلتحق به من أساتذة وطلاب.
والوفاء بالعهود والشروط واجب، والأدلة على هذا كثيرة، ومن ذلك قول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة/1.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ رواه أبو داود (3594)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (5/142).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله سبحانه به رسوله:
إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل؛ كائنا ما كان.
والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه، وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط – فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الصحابة رضي الله عنهم " انتهى . "اعلام الموقعين" (5/379).
ومن المتعارف عليه في المعاهد العلمية أن الطالب: عليه أن يحضر في الدروس فلا يغيب فوق الحد المسموح له به إلا لعذر، وأن يلمّ بالمنهج المعتمد فيه، ويمتحنه الأستاذ فيه من غير تعجيز.
فإذا حاسبت الطلاب وفق هذا، فأنت لم تخرج عن حيّز العدل ولا عن حدّ الخلق الكريم.
وهؤلاء الطلاب رعيتك، عليك أن تحوطهم بنصحك وتعاملهم بما يصلحهم لا بما يفرحهم، فالتساهل في تعليمهم وامتحانهم نوع غش.
عَنِ الحَسَنِ :" أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ رواه البخاري (7150)، ومسلم (142).
وأما التساهل في المعاملة واللين، فإنما يحسن فيما يتعلق بشخصك، كأن تسامح المسيء إليك، وتصبر على تعليم الطلاب ولا تمل من استفساراتهم ولا تمل من إعادة شرح الدرس وتفهيم من لا يفهم ونحو هذا.
ويحسن للأهمية مطالعة هذه المادة: (الأمانة في الاختبارات) للشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
على الرابط التالي:
http://iswy.co/e46vj
على أننا نرى أيضا : أنه لا يصلح الناس على إقامة مقتض الشرط، وما يعتقده المدرس العدل التام فيهم، فأحوال الناس في معاهدهم ومدارسهم، لا بد وأن يداخلهم فيها شيء من التغافل، وترك الصرامة والاستيفاء التام للحقوق والواجبات، فلا يكاد ينصلح أمر الناس بترك الصرامة التامة، بل لا بد من شيء من التغافل، غير المفسد، ولا المضيع للأمانة، والتيسير، والسماحة في اقتضاء الحقوق والواجبات.
إن الطلاب الذين وصلوا إليك في هذه المرحلة الأخيرة من تعليمهم : هم نتاج نظام تعليمي مليء بالمشكلات الواقعية والتربوية، بل والانحراف أيضا، وكثير منهم وصل إلى هذه الأماكن بالغش، أو التجاوز، مع وضع اجتماعي عام غير مساعد على ذلك النمط من الجدية والإصلاح؛ فليس من الحكمة أن تحاول إصلاح ذلك كله مرة واحدة، فمن شأن ذلك أن يثقل عليهم أمرك، كما ترى، وينفرهم من الفائدة والحق الذي عندك.
فاجتهد في أن تلين لهم في أمر لا يؤثر كثيرا في مسار العملية التعليمية، ولا يُخل بأمانتك، وأخرج لهم مع الحزم، شيئا من الأنس، والجائزة، والمسامحة، وبعضا من التغافل عن أمر يسعك فيه مثل هذا؛ وقد قال الله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن/16.
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ لِأَبِيهِ:
"يَا أَبَتِ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَمْضِيَ لِمَا تُرِيدُهُ مِنَ الْعَدْلِ؛ فَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ؟
قَالَ: " يَا بُنَيَّ، إِنِّي إِنَّمَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ؛ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ، فَأُؤَخِّرُ ذَلِكَ، حَتَّى أُخْرِجَ مَعَهُ طَمَعًا مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ، وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ". انتهى، من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" للخلال (26).
سددك الله، ووفقك، وألهمك رشدك، وأعانك على ما حملك من أمرك.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب