أنا فتاة في ال٢١ من عمري، والدتي متوفية، وأبي ـ أعطاه الله الصحة يريد الزواج، ويريدني أن أعيش مع هذه المرأة، وأنا لا أقدر نفسيا على العيش معها، ورفضي للعيش معها سيسبب مشاكل، فهل هذا يعتبر عقوق للوالدين؟
رفض العيش مع زوجة الأب، هل يعتبر عقوقا؟
السؤال: 381713
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
يجب على الولد أن يسعى في إرضاء والده ، ويحرم عليه أن يؤذيه ويغضبه .
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ رواه الترمذي (1899) وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2/340).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وفي هذا الحديث: ذكر غاية البر ونهايته التي هي رِضى الوالدين؛ فالإحسان موجب وسبب، والرضى أثر ومسبب. فكل ما أرضى الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية، وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر " انتهى من"بهجة قلوب الأبرار" (ص216).
ثانيا :
للأب ولاية على ابنته مهما كانت كبيرة في السن وعاقلة ، فإنها لا تتزوج إلا بإذنه ، ولا تخرج من بيته إلا بإذنه .
ولذلك ذهب كثير من العلماء إلى أنه في حالة الطلاق فإن البنت تكون عند أمها إلى سبع سنين، ثم بعد ذلك تكون عند أبيها .
قال ابن قدامة رحمه الله: " ولا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه، فأما البالغ الرشيد، فلا حضانة عليه، وإليه الخيرة في الإقامة عند من شاء من أبويه، فإن كان رجلا، فله الانفراد بنفسه، لاستغنائه عنهما، ويستحب أن لا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية لم يكن لها الانفراد ولأبيها منعها منه ; لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها، ويلحق العار بها وبأهلها، وإن لم يكن لها أب، فلوليها وأهلها منعها من ذلك" انتهى من "المغني"(8/191).
وقال البهوتي رحمه الله :
"(وَالْجَارِيَةُ إذَا بَلَغَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ: فَعِنْدَ أَبيهَا إلَى الْبُلُوغِ ) ، وُجُوبًا .
( وَبَعْدَهُ ) أَيْ : الْبُلُوغِ تَكُونُ ( عِنْدَهُ ) ، أَيْ : الْأَبِ ، ( أَيْضًا إلَى الزِّفَافِ وُجُوبًا ، وَلَوْ تَبَرَّعَتْ الْأُمُّ بِحَضَانَتِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَضَانَةِ الْحِفْظُ ، وَالْأَبُ أَحْفَظُ لَهَا ، وَإِنَّمَا تُخْطَبُ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَحْتَ نَظَرِهِ ؛ لِيُؤْمَنَ عَلَيْهَا مِنْ دُخُولِ النِّسَاءِ ، لِكَوْنِهَا مُعَرَّضَةً لِلْآفَاتِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا لِلِانْخِدَاعِ لِغِرَّتِهَا" انتهى من "كشاف القناع "(5/590) .
فإذا كان هذا النظر، والاحتياط للبنت بحفظها في بيت أبيها، وأمها لم تمت لكنها مفترقة عن أبيها ؛ فلا شك أن التشديد في حفظها بيت أبيها، وقد ماتت أمها : أولى وآكد، لأن الأب في هذه الحالة هو الأولى بابنته قطعا، ولا ينازعه في ذلك أحد.
وكون البنت مع أبيها هو أحفظ لها –كما هو معلوم-، وأقرب إلى جمع شمل الأسرة بدلا من تشتتها وتفرقها، وهذه أمور تأمر بها الشريعة وتحث عليها.
وأما أنك تتوهمين عدم القدرة على العيش مع زوجة أبيك ، المرتقبة: فإنما هو محض وسواس من الشيطان، وتزيين لك : أن يصدك عما فيه الخير لك ، ولوالدك ، ولإخوتك إن كان لك إخوة.
فمن يقوم بأمر الأسرة، ومن يرعاها، ومن يخدمها؛ بل من يعطي الوالد حقه الطبيعي في الحياة مع زوجته، والسكن إليها؟!
وهل ذلك التفكير إلا محض المناقضة لمقصود الشارع، والمحادة لأمر الله ورسوله، واتباع خطوات الشيطان.
نعم؛ يلزم الأب أن يتخير للأسرة الزوجة الملائمة، التي تجمع الشمل الأسرة، ولا تفرقها، وتحنو على ولده، ولا تجفوهم، ويكون هو رقيبا على ذلك كله، قيما بمصالح أولاده، مقربا لهم جميعا، لا مفرقا، ومرغبا، لا منفرا .
فإن شق عليك شيء من ذلك، أو كرهت أن يكون في البيت امرأة سوى أمك، فليست الحياة دائما على ما يتخير المرء ، ولا تقوم الدنيا بالتشهي، ولا بالأماني:
ولو نُعطَى الخيار، لما افترقنا * ولكن، لا اختيار مع الليالي!!
وإذا افترضنا أن هذا الأمر قد شق عليك مشقة حقيقية، ولم يكن مجرد وهم ولا وسواس؛ ألأجل مشقتك يحتمل والدك شقاء الوحدة، والعيش بلا زوجة ما بقي من عمره ؟
فأي عقل، وأي شرع، يرضى بذلك، وأي قلب يحتمله؟!
ثم تمر الأيام بك، وبإخوتك، وتتزوجون، إن شاء الله، وتنتقلون، ويبقى الأب وحيدا، منعزلا ما بقي له من عمره، حتى يتعطف أحد منكم فيزوره، أو يقضي له حاجته وهو متكرِّه، مستثقل، ينتظر يوم رحيله!!
أو إنكم ، حينما تستقلون بعيشكم، وتنتقلون إلى بيوتكم، سوف تعطفون على والدكم، الشيخ الكبير، وتتكرمون عليه بأن تسمحوا له بالزواج ؟! وهيهات، إن سمحتم، وقد فاته القطار، وانقى العمر!!
أليست هذه هي الأنانية المحضة؟ أليست هذه هي الأثرة البغيضة؟ أليس هذا تغليبا لجانب من المشاعر، على حساب مصالح عظيمة تريدين إهدارها، لأجل ذلك الشعور بعدم القدرة على احتمال امرأة أخرى في البيت، بديلا عن أمكم؟!
وقد نص العلماء على أن حصول المشقة على الولد فيما يأمره به أبواه : لا يكون عذرا له في عصيانهما ، بل عليه تحمل تلك المشقة ، ويجاهد نفسه ، طاعة لوالديه ، وبرا بهما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر، فإن شق عليه ولم يضره وجب" انتهى من"الفتاوى الكبرى" (5/381).
أيتها السائلة، والابنة الكريمة:
إن المثل الدائر بين الناس يقول: إذا أردت أن تطاع، فأمر بما يُستطاع!!
دعي النقاش في المبدأ، فإن هذا لا يوافقك عليه أحد ، ولا يقره شرع، ولا يقبله عقل؛ ومعاندة الوالد في حقه: هو عقوق ظاهر له.
لكن تعالي نجعل الحوار في العائلة، ومع الوالد: في اختيار الشخص الأمثل للقيام بهذه المهمة، وأداء هذه الأمانة العظيمة..
فهذا، وهذا فقط : هو الذي يجب النقاش حوله؛ لا أن يكون الكلام في الوقوف أمام رغبة الوالد في حق من أظهر حقوقه، وأولاها بالتقديم، وقد ماتت زوجته..
هنا يرى الوالد، ويعلم أن الأمر ليس تعنتا، وليس عنادا، بل هو رغبة في الصلاح والإصلاح، وحفاظ على انتظام العيش، واستقامة البيت، ومصلحة الجميع.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب