لقد جاء في أحد الفتاوى هذا الكلام : "ولا يستلحقه الزاني به، ولا ادَّعي أنه ابنه من الزنا، ففي هذه الحال لا يُلحق به أيضاً قولاً واحداً، فلم يقل أحد من أهل العلم بإلحاق ولد الزنا بالزاني من غير أن يدعيه الزاني، وقد أشار الماوردي في "الحاوي الكبير" (8/455) إلى : " إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا"، أي إذا لم يدعه، الإشكال: أريد أن أتكلم بصراحة حول هذه النقطة فهي الحالة التى أعيشها، فأنا ولد غير شرعي، وأعرف حق المعرفة أبي البيولوجي، ومتأكد أنه هو، وهو غير معترف بي، ولا يريد ذلك، ولكي لا أطيل وأدخل في التفاصيل أقول : لماذا هذا الإجماع من العلماء الذي يحرمنا نحن من نسبنا، ونعيش بدونه إلى الأبد مجهولين؟، رغم أنه في العصر الحاضر عندنا التحاليل الجينيةADN، تحليل الحمض النووي، التى نستطيع من خلالها إثبات النسب سواء اعترف الزاني أو لم يعترف، فهو في غالب الأحيان سوف ينكر خاصة في مجتمعاتنا العربية، وكما هو الحال معي، يجب علينا أن نعاصر تطورات العصر الحاضر وخاصة في مثل هذه المسألة المهمة، فما هو رأيكم؟
لماذا لا يجبر الزاني على استلحاق ولد الزنا اعتمادا على تحليل الحمض النووي؟
السؤال: 386891
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
جمهور الفقهاء على أنه لا ينسب الولد إلى الزاني، ولو ادعاه، واستلحقه؛ لقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ الأحزاب/5.
والزاني ليس أبا شرعا ، بل هو صاحب نطفة محرمة . والقاعدة أن المعدوم شرعا، كالمعدوم حسا، فيصير الولد غير معلوم الأب، فيدخل في قوله : فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ.
ومن الأدلة على ذلك : ما رواه أحمد (7002)، وأبو داود (2265)، وابن ماجه (2746) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وذكر قضاء النبي صلى الله عليه في مسألة استلحاق النسب : … وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا ، أَوْ مِنْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ ، وَلَا يَرِثُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ ادَّعَاهُ ، فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ ، مِنْ حُرَّةٍ كَانَ أَوْ أَمَةٍ.
والحديث حسنه الألباني في "صحيح أبي داود"، و"صحيح ابن ماجه"، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق المسند. واستدل به ابن مفلح لمذهب الجمهور.
فقضى صلى الله عليه وسلم أن الولد إن كان من حرة زنى بها ، فإنه لا يلحق بالزاني ولا يرثه ، حتى لو ادعاه الزاني .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وأما الولد الذي يحصل من الزنا ، يكون ولدا لأمه، وليس ولدا لأبيه؛ لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) العاهر : الزاني ، يعني ليس له ولد . هذا معنى الحديث .
ولو تزوجها بعد التوبة: فإن الولد المخلوق من الماء الأول لا يكون ولدا له، ولا يرث من هذا الذي حصل منه الزنا ولو ادعى أنه ابنه، لأنه ليس ولدا شرعيا " انتهى من "فتاوى إسلامية" (3/370).
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز أن ينسب له إذا ادعاه، وهو قول جماعة من السلف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وولد الزنى لا يلحق الزاني في قول الجمهور.
وقال الحسن وابن سيرين: يلحق الواطئ إذا أقيم عليه الحد، ويرثه. وقال إبراهيم: يلحقه إذا جلد الحد، أو ملك الموطوءة. وقال إسحاق: يلحقه. وذكر عن عروة , وسليمان بن يسار نحوه " انتهى من "المغني" (6/345).
وصرح الحنفية بأنه لو نكح الزانية، وادعى الولد، نسب إليه قضاءً، بشرط ألا يصرح بأنه من الزنا.
وأما ديانةً فلا يجوز له أن يدعيه.
قال في الدر المختار: "لو نكحها الزاني حل له وطؤها، اتفاقا. والولد له، ولزمه النفقة".
قال ابن عابدين في حاشيته (3/49):
" قوله : ( والولد له ) أي إن جاءت بعد النكاح لستة أشهر …
فلو لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح: لا يثبت النسب، ولا يرث منه؛ إلا أن يقول هذا الولد مني، ولا يقول من الزنى…
والظاهر: أن هذا من حيث القضاء.
أما من حيث الديانة: فلا يجوز له أن يدعيه ; لأن الشرع قطع نسبه منه , فلا يحل له استلحاقه به، ولذا لو صرح بأنه من الزنى، لا يثبت قضاء أيضا , وإنما يثبت لو لم يصرح؛ لاحتمال كونه بعقد سابق، أو بشبهة؛ حملا لحال المسلم على الصلاح.
وكذا ثبوته مطلقا: إذا جاءت به لستة أشهر من النكاح، لاحتمال علوقه بعد العقد، وأن ما قبل العقد كان انتفاخا لا حملا، ويحتاط في إثبات النسب ما أمكن" انتهى.
وهذا يؤكد كلام الماوردي، رحمه الله: أنه لو اعترف أنه من الزنا لم ينسب إليه.
قال الماوردي: " ولأن ولد الزنا لو لحق بادعاء الزاني إياه، للحق به إذا أقر بالزنا وإن لم يدعه، كولد الموطؤة بشبهة.
وفي إجماعهم على نفيه عنه مع اعترافه بالزنا: دليل على نفيه عنه مع ادعائه له.
ولأنه لو لحق بالاعتراف، لوجب عليه الاعتراف؛ وقد أجمعوا على أن الاعتراف به لا يلزمه، فدل على أنه إذا اعترف به، لم يلحقه" انتهى من "الحاوي الكبير" (8/162).
والكلام الآن في إثبات النسب مع رفض الزاني، وهذا لا يكون إلا بإلزام القضاء، وهو لو اعترف بالزنا أمام القضاء، فلن يثبت النسب.
وإثبات النسب بالحمض النووي إنما يكون فيما لا يخالف الشرع، فإذا كان الشرع قطع الصلة بين الزاني وولده، وألغى النسب، فكيف يؤتى بوسيلة لإثباته.
ولهذا لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسل الشبه البيِّن بين الزاني والولد، كما روى البخاري (4547)، ومسلم (1496) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْظُرُوا؛ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا .
فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ".
وفي رواية للبخاري: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ .
فلم ينسب إلى عويمر، وهو الزوج؛ لأنه لاعن. ولم ينسب للزاني، ولم يؤمر الزاني باستلحاقه.
والحمض النووي يعتمد عليه عند اشتباه المواليد، أو لو ادعى الولد أكثر من شخص، ولا عبرة به عند رفض الزاني الاعتراف بالولد.
فلو تمسك الزاني بقول المذاهب الأربعة أنه لا يجوز استلحاق ولد الزنى، وأنه يحرم إضافته إليه، لم يكن ملوما على مجرد عدم الاستلحاق.
ومعلوم أن جريمته الأولى ثابتة، لا علاقة لهذا البحث بها، وكذا جنايته على من ولد من مائه، وظلمه له. لكن ليس الكلام الآن في هذا.
والقول الثاني الذي يجوّز الاستلحاق، قول جماعة من السلف كما قدمنا، ويمكن الأخذ به، لكن دون إلزام، فلو قطع الصلة بالولد وأبى أن يضاف إليه، فلا نعلم قائلا يوجب عليه ذلك، وتقدم في كلام الماوردي الإجماع على أنه لا يجب الاعتراف به.
ثانيا :
وأما قولك : لماذا نعيش بدون نسب إلى الأبد؟
فهذا أمر من جملة الابتلاءات التي يبتلي الله تعالى بها من يشاء من عباده، فمن صبر فله العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة ، والإنسان لا يختار نوع الابتلاء الذي يقع به، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الأنبياء/35.
وما وقع لا يد لك فيه، ولا تلام عليه، فاصبر على قضاء الله وقدره، وارض بذلك، فإن في ذلك الخير الكثر ، فإن الله تعالى يقدر للعبد الخير من حيث يظن العبد أنه شر له ، قال الله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ البقرة/216.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب