كيف الجمع بين حديث تصدق الصديق بكل ماله وحديث (خير من أن تذرهم عالة …)؟ وما الأفضل؟
هل تجوز الصدقة بجميع المال؟
السؤال: 389207
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
روى أبو داود (1678)، والترمذي (3675) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: “أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)، قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا” والحديث حسنه الألباني في “صحيح أبي داود”.
والتصدق بجميع المال:
1- جائز لمن كان له كسب، أو كان واثقا من نفسه، راسخا في التوكل على الله، والصبر على القلة، والتعفف عن المسألة.
2- فإن لم يوجد في المتصدق ذلك: كُرِه له التصدق بجميع ماله.
قال ابن قدامة الله في “المغني” (3/ 102): ” والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه على الدوام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول متفق عليه.
3- فإن تصدق بما ينقص عن كفاية من تلزمه مؤنته، ولا كسب له: أثم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون.
ولأن نفقة من يمونه واجبة، والتطوع نافلة، وتقديم النفل على الفرض غير جائز.
4- فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، يحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة: فحسن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة، فقال: جُهد من مُقلّ، إلى فقير، في السر .
وروي عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله، فأتاه أبو بكر بكل ما عنده، فقال له: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء بعده أبدا.
فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقوة يقينه، وكمال إيمانه، وكان أيضا تاجرا ذا مكسب، فإنه قال حين ولي: قد علم الناس أن كسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي. أو كما قال رضي الله عنه.
وإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين: كُره؛ لما روى أبو داود، عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي أحدكم بما يملك، ويقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى.
فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي كُره من أجله الصدقة بجميع ماله، وهو أن يستكف الناس، أي يتعرض لهم للصدقة، أي يأخذها ببطن كفه، يقال: تكفف، واستكَفَّ: إذا فعل ذلك.
وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة، ثم حث على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تروا إلى هذا، دخل بهيئة بذة، فأعطيته ثوبين، ثم قلت: تصدقوا، فطرح أحد ثوبيه؟! خذ ثوبك. وانتهره.
ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله، لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه، فيندم، فيذهب ماله، ويبطل أجره، ويصير كَلًّا على الناس” انتهى من المغني.
وعلم منه أن الصدقة بجميع المال فيها تفصيل، تارة تستحب وتارة تكره، وتارة تحرم.
ثانيًا:
وأما حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) فهو في الوصية بماله بعد موته، لا في الصدقة بماله في حياته.
روى البخاري (2742)، ومسلم (1628) عَنْ سعد رضي الله عنه، قَالَ: “عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: (لَا)، قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: (لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ).
وفي رواية للبخاري: “قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ “.
وقد ذهب جمع من الفقهاء إلى تحريم الوصية بما زاد على الثلث، إذا كان للإنسان وارث يرثه.
قال في “شرح منتهى الإرادات” (2/ 456): “وتحرم الوصية بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارث بشيء، نصًا [أي: نص عليه الإمام أحمد]. سواء، كانت في صحته أو مرضه.
أما تحريم الوصية لغير وارث بزائد على الثلث، فلقوله صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال فالشطر؟ قال لا. قال: فالثلث. قال: الثلث والثلث كثير» الحديث ” متفق عليه.
وأما تحريمها للوارث بشيء، فلحديث: إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه الخمسة إلا النسائي، من حديث عمرو بن خارجة، وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي.
وتصح هذه الوصية المحرمة، وتقف على إجازة الورثة، لحديث ابن عباس مرفوعا: لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة. رواهما الدارقطني.
ولأن المنع لحق الورثة؛ فإذا رضوا بإسقاطه: نفذ” انتهى مختصرًا.
وأما الصدقة في الحياة فلا تحرم بزيادة على الثلث، إلا إن أضر بمن يعول.
والفرق ظاهر بين الصدقة والوصية، فالمتصدق قد يعمل ويكسب مالًا يتركه لورثته، وربما كان أكثر مما تصدق به.
وأما الموصي: فإن أوصى بجميع بماله، فهذا يعني أن ورثته لن يصلهم شيء، وإن أوصى بأكثر من الثلث، أضر بتركتهم ضررا بينا؛ فلهذا منع منه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب