أقرأ في كتاب “رياض الصالحين”، ولما وصلت إلى باب فضل الجوع وخشونة العيش قال لي أحد زملائي: ليس للجوع فضل، وقد أخطأ النووي في تبويب الباب بهذا الاسم، فهل هذا صحيح؟
ماذا يقصد النووي بباب: فضل للجوع في كتاب رياض الصالحين؟
السؤال: 395108
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لفظ “الجوع” يطلق ويراد به عدة معاني، وفي مثل هذه الحال لا يحكم على المصطلح بحكم عام وإنما يفصل الحكم بحسب المعاني التي يشتمل عليها هذا اللفظ، فالإجمال سبب للنزاع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات، إذا فصل فيها الخطاب، ظهر الخطأ من الصواب ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (7/664).
وقال رحمه الله تعالى:
” وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة، ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها؛ فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها، أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (12/114).
وعلى ذلك يقال:
الجوع يطلق ويراد به أحد المعاني الآتية:
المعنى الأول:
المجاعة، التي تحصل بسببها الأمراض والموت، فالجوع بهذا المعنى لم يرد فيه فضل، بل قد يكون عقوبة. كما في قوله تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) النحل/112.
وقد أظهر الله تعالى أن من نعمه إزالة هذا الجوع عن العبد.
كما في قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قريش/1–4.
المعنى الثاني:
أن يراد بالجوع خلاف الشره وملء البطن بالمآكل والمشارب، فيقصد به الزهد في الدنيا، وأن العبد يأكل ما تيسر، من غير تكلف، ولا يشبع بطنه شبعا يزيل النشاط ويورث الكسل والخمول.
والجوع بهذا المعنى لا شك أن فيه فضلا؛ لأنه يحصل به الإعراض عن شهوات الدنيا، ويحصل به نشاط للبدن.
وهذا الذي يظهر أنه المقصود من كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه “رياض الصالحين” حيث قال: ” باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات “.
فسائر العبارة يفسر المقصود من الجوع، وأنه ترك المبالغة في المأكل والمشرب واللباس، وهو المعنى الذي تدل عليه نصوص القرآن والسنة التي ساقها الإمام النووي في هذا الباب.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
” هذا الباب ذكره المؤلف رحمه الله بعد باب الزهد في الدنيا، يبين فيه أنه ينبغي للإنسان ألا يكثر من الشهوات في أمور الدنيا، وأن يقتصر على قدر الحاجة فقط، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وذكر آيات فيها بيان عاقبة الذين يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات…
ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها في بيان عيش النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما شبع من خبز الشعير ليلتين تباعا؛ لقلة ذات يده عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يمضي عليه الشهران في ثلاثة أهلة ما يوقد في بيته نار، وإنما هو الأسودان: التمر والماء، مع أنه صلى الله عليه وسلم لو شاء لصارت الجبال معه ذهبا، ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتصر على الدنيا بما يساوي الدنيا من الحاجة فقط، والله الموفق ” انتهى من “شرح رياض الصالحين” (3/ 383-385).
المعنى الثالث:
أن يراد بالجوع، ما يقصده غلاة المتصوفة بترك الطعام بالأيام والأسابيع، زعما منهم أنه يساعد على حلول النور والمعارف الإلهية في القلب، ولا شك أن هذا أمر مبتدع وفيه إضرار بالدين والنفس والعقل، فليس فيه فضل، بل هو فساد وابتداع، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب