لدي سؤال أشكل علي، وهو: هل الدعاء كفيل بأن يهدي شخصا إلى الصراط المستقيم؟ وإذا كان الجواب بنعم، ألا يتعارض هذا مع قول الله تعالى: إِ(نَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)؟ وكذلك ألا يعتبر هذا ظلما؛ أن يستجيب الله تعالى ويهدي هذا الشخص لصراط مستقيم، وهو كان معرض عنه في البداية؟ وكذلك أليس هذا يعتبر إجبارا للشخص أن يسلك درب الخير من دون إختيار؟
ولقد أجبتم في الفتوى رقم: (258532)، وقلتم: إن الدعاء وحده لا يكفي، ولا بد من الأعمال الأخرى كالنية والجهاد وإلخ، ومع ذلك أنتم تقولون في الفتوى رقم: (69837) أن يدعي الشخص؟
هل الدعاء لشخص بالهداية يتعارض مع كون الجزاء منوطًا بالعمل؟
السؤال: 401850
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الدعاء للنفس أو للغير بالهداية من أعظم الأسباب النافعة، وهذا لا يتعارض مع قول الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ الرعد/11.
لأن هذه الآية تبيّن أن الإعراض عن شرع الله تعالى سبب لزوال النعم وحلول العقاب، فمن أرشده الله تعالى للهداية، فليحذر من الإعراض عنها، وعليه بملازمتها بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وهو كقوله تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ الأنفال/53 – 54.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
” قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) أي: لا يسلبهم نعمه ( حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) فيعملوا بمعاصيه ” انتهى. “زاد المسير” (4/312).
وقال الواحدي رحمه الله تعالى:
” وقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) أي: لا يسلب قومًا نعمة حتى يعملوا بمعاصيه، قال ابن عباس: يريد العذر فيما بينه وبين خلقه، ويعني بهذا أهل مكة، كما قال: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ” انتهى. “البسيط” (12/311).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
” قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ).
بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا.
والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )، الآية . وقوله: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ” انتهى. “أضواء البيان” (3/115).
ثانيا:
الله تعالى يستجيب للدعاء بالهداية لمن شاء من عباده.
كما جاء في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ البقرة/272.
وقال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص/56.
والله تعالى في أفعاله ومشيئته متصف بكمال العلم والحكمة والعدل، فلا يستشكل شيء من أقداره وأفعاله ومشيئته.
قال الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء/23.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (8/79).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” الله سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمه هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها … ” انتهى. “شفاء العليل” (ص 190).
ثالثا :
وأما اعتبار أن يهدي الله رجلا كان معرضا عنه ، اعتبار ذلك ظلما . لا ندري كيف يكون هذا ظلما ؟ بل هو فضل من الله تعالى ، فكيف يحول الفضل إلى ظلم ؟
فالله تعالى يمن بالهداية على من يشاء من عباده، لا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده، وقد ندب عباده أن يسألوه من فضله، قال تعالى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا النساء/32.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما فضل الله به هذه الأمة على غيرها من الأمم، هو محض فضل الله تعالى عليهم. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ “، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَذَلِكَ، فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ رواه البخاري (2268).
رابعا :
إذا هدى الله تعالى عبدا فهو لا ينزع عنه قدرته على الاختيار، كما هو معروف بالحس والعقل عند كل إنسان.
فكل إنسان يعلم من نفسه أنه ليس مجبرا على الطاعة ، ولا على المعصية ، فأين الإجبار؟
وهل إذا دعا إنسان لإنسان فقير بالغنى، فأغناه الله تعالى، فهل تقول بأن الله تعالى قد ظلمه وأجبره على الغنى، وحرمه حرية اختيار الفقر؟!
فإذا سهل الله تعالى لعبد الهداية فذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء ، وهو أعلم بمن يستحقه .
فلا يليق بالعبد الذي لم يطلعه الله تعالى على حكمته في أقداره أن يستشكل شيئا من أقدار الله تعالى .
خامسا :
فالسؤال الذي ذكرنا فيه أن الدعاء وحده لا يكفي ، قلنا : “الدعاء سبب حقيقي ، من أسباب الهداية ، ولكنه ليس هو السبب الوحيد المستقل بذلك ، ولا هو السبب المؤثر وحده في بلوغها . فهناك مجموعة من الأسباب المجتمعة التي توصل إلى الهداية ، كما أن هناك موانع للهداية يجب على الداعي أن يجتنبها” انتهى .
فقد يكون هناك مانع من موانع الإجابة ، ثم إن الأسباب لا تكون منتجة لأسبابها إلا إذا شاء الله تعالى ذلك ، فقد يمنع الله تعالى الهداية عن شخص لحكم جليلة وأسباب لا نعلمها ، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه (ألا يجعل بأس أمته بينهم) ولكن الله تعالى لم يستجب ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا رواه مسلم (7442) .
ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة .
وفي السؤال: (69837) ذكرنا أنه يدعى للشخص بالهداية ، فهذا مجرد سبب ، وليس مؤثرا بذاته ، بل إذا شاء الله تعالى هداية ذلك الشخص.
ثم نقول لك في آخر الأمر:
ألست تريد أن الهداية لا تكون إلا بعمل صالح يعمله العبد؟
حسنا؛ فهذا العمل الصالح، من الذي وفق العبد إليه، وأعانه عليه، وشرح صدره له؟
أليس هو رب العالمين، وأرحم الراحمين؟ قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأنعام/125.
بل نفس الهداية إلى الإسلام، هي أعظم نعمة أنعمها الله على عباده، وهي محض فضل من الله على عبده المؤمن، من غير سابق استحقاق له. قال الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الحجرات/17.
وبكل حال؛ ففضل الله على عباده واسع، لا راد لفضله، يصيب به من يشاء عباده، ورحمته سبحانه وسعت كل شيء؛ فإياك أن تتحجر واسعا يا عبد الله ، أو تحمل سعة رحمة الله وفضله العميم، على شح نفسك، وبخلها، وضيق عطنها. والتمس ما عند الله من فضل، وتعرض لنفحات الله جل جلاله، وأكثر من الدعاء لنفسك ولمن تحب بالهداية.
وفي صحيح مسلم (2725) عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ، بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة