ما حكم تدين؛ أي أعطى نقودا لآخر كدين داخل المسجد؟
هل يجوز الإقراض في المسجد؟
السؤال: 403905
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع في المسجد ، وعن نشد الضالة فيه ، وذلك لأن هذا ينافي ما بنيت المساجد من أجله ، وهو الصلاة والذكر … وأعمال البر التي يرجى بها ثواب الآخرة .
أما أعمال الدنيا فلم تبن المساجد لها .
قال النووي في “المجموع” (3/203) :
“تكره الخصومة في المسجد ، ورفع الصوت فيه ، ونشد الضالة ، وكذا البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود ، هذا هو الصحيح المشهور …
ودليل هذه المسائل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لاردها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم .
وفى رواية الترمذي : (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا : لارد الله عليك) قال الترمذي : حديث حسن .
وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلا نشد في المسجد فقال : من دعى إلى الجمل الأحمر؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا وجدت ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له) رواه مسلم .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الشراء والبيع في المسجد ، وأن ينشد فيه ضالة ، وأن ينشد فيه شعر) رواه أبو داود والترمذي والنسائي . قال الترمذي : حديث حسن” انتهى .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
“وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ”.
وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم ، ثم قال :
“وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا .
وَرَأَى عِمْرَانُ الْقَصِيرُ رَجُلًا يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : هَذِهِ سُوقُ الْآخِرَةِ ، فَإِنْ أَرَدْت التِّجَارَةَ فَاخْرُجْ إلَى سُوقِ الدُّنْيَا” انتهى من “المغني” (6/383) .
وأما أعمال البر ، كالصدقة ، وجمع التبرعات ، فقد دلت السنة على جوازها في المسجد .
روى مسلم (2398) عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: “كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَار، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ [أي يظهر من ثيابهم شدة فقهرهم] ، مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ .
فَتَمَعَّرَ [أي : تغير] وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ ، مِنْ دِرْهَمِهِ ، مِنْ ثَوْبِهِ ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ – حَتَّى قَالَ : وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ .
قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا ، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ… ).
فدل هذا الحديث على جواز جمع التبرعات والصدقات في المسجد.
قال الزركشي في “إعلام الساجد بأحكام المساجد” (ص 353):
“لا بأس أن يعطي السائل في المسجد شيئا” انتهى.
ومثل هذا : الإقراض ، لما فيه من الإحسان إلى المقترض، ودفع حاجته .
وقد دلت السنة على جواز المطالبة بالدين في المسجد .
روى البخاري (471) عن كَعْب بْن مَالِكٍ: ” أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ ، فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى بَيْتِهِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى : (يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، يَا كَعْبُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ : كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قُمْ فَاقْضِهِ).
فدل هذا الحديث على جواز أن يطالب الدائنُ المدينَ بسداد دينه في المسجد ، وقد ترجم الإمام البخاري للحديث بقوله : “باب التَّقَاضِي وَالْمُلاَزَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ” انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (1/553):
“قَوْله : (بَاب التقاضى)
أَي : مُطَالبَة الْغَرِيم بِقَضَاء الدّين ، والملازمة أَي مُلَازمَة الْغَرِيم ، وَفِي الْمَسْجِدِ يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرَيْنِ” انتهى .
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
“مقصود البخاري : الاستدلال بهذا الحديث على جواز تقاضي الغريم لغريمه في المسجد ، ومطالبته بدينه ، وملازمته له لطلب حقه ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وسمعه ولم ينكره” .
فإن قيل : ما الفرق بين البيع في المسجد والتقاضي ، بحيث يمنع الأول ، ويجوز الثاني ؟
قال ابن رجب :
“ومن كره البيع ، فرق بينه وبين التقاضي بأن البيع في المسجد ابتداء لتحصيل المال فيه ، وذلك يجعل المسجد كالسوق المعد للتجارة ، واكتساب الأموال ، والمساجد لم تبن لذلك ، ولهذا قال عطاء بن يسار وغيره لمن رأوه يبيع في المسجد : عليك بسوق الدنيا ، فهذا سوق الآخرة .
أما تقاضي الدين ، فهو حفظ مال له، وقد لا يتمكن من مطالبته إلا في المسجد، فهو في معنى حفظ ماله من الذهاب” انتهى من “فتح الباري” (3/259) .
وإذا جاز التقاضي في المسجد ، فالذي يظهر أن جواز الإقراض فيه أولى ، لأنه أظهر في الإحسان، ولأن الإقراض يكون مبنيا على المسامحة عادة، فلا يكون فيه نزاع ولا رفع أصوات، ولا شيء من ذلك؛ بخلاف الاقتضاء، فإن المشاحة والمخاصة تقع فيه كثيرا.
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب