كيف نفرق بين زلة العالم وبدعة المبتدع؟
ما الفرق بين زلة العالم و بدعة المبتدع؟
السؤال: 428205
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الزلة هي الخطأ.
جاء في “تاج العروس” (29/129):
“ زَلَّ الرَّجُلُ زَلَّةً قَبِيحَةً، إِذا وَقَعَ فِي أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، أَو أَخْطَأَ خَطَأً فاحِشاً ” انتهى.
وبناء على هذا، فالزلة تتناول البدعة، كما تتناول الخطأ الذي لا يعد من جنس البدع.
فزلة العالم قد تكون ببدعة، وقد تكون بغيرها.
فأما التمييز بين الزلة التي ليست بدعة، وبين الزلة التي من جنس البدع.
فهذا يكون من وجوه:
الوجه الأول:
بالنظر إلى صاحب هذا الزلل.
فإن كان صاحب الزلل ممن صفته اتباع نهج السلف في الاستدلال، لكنه لقصر في الاطلاع أو في الفهم، حدث له زلل؛ فمثل هذا لا يعد مبتدعا؛ لأنه لم يتعمد المخالفة، بل قصد الاتباع.
وأما من كان نهجه في الاستدلال اتباع الهوى، بتتبع المتشابه من النصوص وترك المحكم، فهذا هو الذي يوصف بالابتداع.
قال الله تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) آل عمران/7.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) … قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ) رواه البخاري (4547).
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
” فالمبتدع من هذه الأمة: إنما ضل في أدلتها، حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة، لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله.
وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتبع ” انتهى من “الاعتصام” (1/234).
يعني بذلك: أن المبتدع ينظر في الأدلة من أجل أن ينصر بدعته، لا من أجل أن يعرف الحق ويتبعه.
الوجه الثاني:
أن البدعة مرجعها إلى الاعتماد على ما ليس عمدة، والاحتجاج بما ليس حجة؛ فمبناها على الشبهة، لا الدليل المحقق.
– ومن صور ذلك: الاستدلال لها بالحديث الموضوع؛ كالاستدلال على صلاة الرغائب والنصف من شعبان بأحاديث موضوعة، كما سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (60180).
– ومن صورها: الاستدلال بالاستحسان العقلي فيما لا يدرك حكمه بالعقل، أو في المسائل التي جاء فيه دليل قاطع من الكتاب أو السنة أو الإجماع، كجدال المعتزلة ونحوهم في المسائل العقدية فيثبتون وينفون منها بحسب ما تستحسنه عقولهم، ثم يعارضون بها نصوص الوحي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس : فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف، وإنما ابتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم، ممن بنوا أصول دينهم على ما سموه معقولا ، وردوا القرآن إليه، وقالوا: إذ تعارض العقل والشرع إما أن يفوض أو يتأول .
فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم ” انتهى من “الاستقامة” (1/23).
راجع للفائدة جواب السؤال رقم: (249296).
– ومنها: الاستدلال بما لا يعتبر دليلا أصلا؛ كالاستناد إلى العاطفة والذوق والمنامات وعادات الناس أو الأشخاص، ومعارضة الأدلة الشرعية بها.
روى البيهقي في “السنن الكبرى” (5/ 237 – 238) بسنده، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: ” أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، يُكْثِرُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَى الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُعَذِّبُكَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ”، وصحح اسناده الألباني في “ارواء الغليل” (2/236).
وكثير مما يرى الناس من بدع الصوفية : تقوم على هذا النوع من الإستدلال الباطل.
– ومن ذلك: الاستدلال بنصوص صحيحة ثابتة، لكن يفسرها المبتدع بما يتوافق مع الهوى، فلا يفهمها وفق اللغة التي نزل بها القرآن، ولا وفق ما فسرها به سلف الأمة من الصحابة والتابعين.
وعامة أهل البدع يقعون في ذلك، فيتأولون النصوص على غير وجهها، ويحرفونها لنصرة مذاهبهم، وآرائهم.
وللاطلاع على أمثلة لهذا طالع ما ورد في جواب السؤال رقم: (302310).
ثانيا:
وأما الزلل الذي لا يعد بدعة، فصاحبه لا يخرج في استدلاله عن الطريقة الشرعية التي بسطها أهل العلم في كتب الأصول، لكن يدخل عليه الزلل بسبب قصور في تصور المسألة، أو في فهم الدليل، أو قصور في الإحاطة بأدلة المسألة، فهو معذور بالجهل أو الـتأويل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه.
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة … ” انتهى من “رفع الملام” (20/232).
ثالثا:
الزلل الذي ليس ببدعة قد يصدر من العالم في مجال يشرع فيه الاجتهاد، كالاجتهاد في الأمور المستجدة من معاملات ومآكل ومشارب وأحوال وغيرها، والاجتهاد في تكييفها، وبيان حكمها، فالعالم مأمور بالاجتهاد فيها لحاجة الناس إلى معرفة حكمها، وقد يزل العالم في ذلك بأسباب مختلفة كما سبق.
وأما زلل البدعة: فيتعلق بالجانب الشرعي الذي قد كفيناه، فلا يشرع فيه الاجتهاد، وإنما يشرع فيه الاتباع والتسليم.
روى محمد بن نصر المروزي في “السنة” (78) وغيره: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ( اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعوَا فَقَدْ كُفِيتُمْ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ).
ومن ذلك النوع من الزلل البدعي: الكلام في الأمور الغيبية بغير ما جاء به الوحي.
أو استحداث عبادة، أو الزيادة في العبادات المشروعة باستحداث صفات أو تقييدات معينة أو الغلو فيها، رغم أننا مأمورون بالتأسي فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، فكل زيادة مردودة؛ لقول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ ، فَهُوَ رَدٌّ ) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
أو التغيير لأحكام الشرع المُحْكَمة التي لا مجال للاجتهاد فيها، كمثل ما ينادي به بعض الناس في هذا العصر من دعوى تجديد الإسلام حتى يتوافق مع الحياة العصرية بزعمهم، كمناداتهم بالتقارب بين الأديان، أو باستبدال الحدود الشرعية بعقوبات مالية أو بالسجن، وكزعمهم أن قطع يد السارق يؤثر في اليد العاملة، ونحو هذا من الضلالات والبدع المغلظة الكبيرة؛ وقد قال الله الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ) المائدة/3.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
” كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه، منصوصا بَيِّنا: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويدرك قياسا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره: لم أقل إنه يضيق عليه، ضِيق الخلاق في المنصوص.
… قال الله في ذم التفرق: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ).
وقال جل ثناؤه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).
فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات… ” انتهى من “الرسالة” (ص 560 – 561).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” … فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة ” انتهى من “إغاثة اللهفان” (1/ 570 – 571).
رابعا:
من المناطات التي كثر تفرع البدع عنها، ومخالفة الهدي النبوي بسببها: الكلام فيما سكت عنه الشرع، مع وجود سببه في عصر النبوة.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
” أن يسكت – أي الوحي – عنه، وموجبه المقتضي له قائم ، فلم يقرَّرْ فيه حكمٌ عند نزول النازلة، زائدٌ على ما كان في ذلك الزمان ؛ فهذا الضرب: السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص ؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه ؛ كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ، ومخالفة لما قصده الشارع ؛ إذا فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك ، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه” انتهى من “الموافقات” (3/157).
فالحاصل، أن الفرق بين زلل البدعة وزلل الاجتهاد، هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء …: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا…
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين، في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق، واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عذر بما لم يعلمه، وهو الخطأ المرفوع عنا.
بخلاف أصحاب الأهواء. فإنهم: ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ )، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا. ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به.
فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم، أو جاهلين شبيها بالضالين. فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق. وقد سلك طريقه. وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (29 / 43 – 44).
وينظر : جواب السؤال رقم: (226211)، ورقم: (282688).
ولمزيد الفائدة تحسن مطالعة رسالة “قواعد معرفة البدع”، ورسالة “حكم التبديع في مسائل الاجتهاد” للدكتور محمد بن حسين الجيزاني، وكلاهما متاح على الشبكة.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة