أود الاستفسار عن حكم خلط لحم الأضاحي؛ حيث يشترك مثلا 100 شخص في 15 أضحية من البقر، وفي العيد نظرا للازدحام تُذبح الأبقار كل 3 مع بعضها مثلا، ثم تخرج لحجرة فيها يُقسّم اللحم، وفي مكان التقسيم يوجد ازدحام، وإعطاء كل مضح من نفس البقرة التي نوى أنه مشترك فيها صعب، ولكن ليس بمتعذر، لكن فيه مشقة كبيرة، حيث نتحرز من الخلط مع شدة الازدحام، فهل يجوز لنا أن نخلط لحم هذه الأبقار مع بعضها، بحيث لا يتميز لحم الأولى عن الأخرى، ثم نعطي كل شخص قدرا معينا من اللحم، مع العلم أن هذه الأبقار كلها من نوع واحد وأوزانها متقاربة جدا – بين 470 و 500 كيلو – ، و قبل أن نخلط نستأذن المضحين في هذا الخلط، لأنني قرأت في أحد كتب الفقه أن اللحم الرطب يجري فيه الربا، وكأني فهمت منه أن تسامح المضحين مع بعضهم في تبديل اللحم بينهم، حيث يُخلط و تسامحهم فيه لا يرفع جريان الربا فيه، ولم أجد فيما بحثت عنه جوابا واضحا عن جواز الخلط أو عدمه، فآمل الإفادة.
إذا اختلطت لحوم الأضاحي فكيف يقسمها على المشتركين؟
السؤال: 459332
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
الظاهر من السؤال أن الجزار يذبح كل أضحية عن أصحابها، وإنما يقع الإشكال في توزيع اللحم.
وعلى فرض وقوع الغلط، وأنه ذبح أضحية جماعةٍ، على أنها لجماعة غيرهم: فلا يضر.
قال البهوتي رحمه الله: "إن ضحى اثنان؛ كل منهما ضحى بأضحية الآخر غلطا: كفتهما، لوقوعها موقعها، بذبحها في وقتها، ولا ضمان على واحد منهما للآخر، استحسانا؛ لإذن الشرع فيه" انتهى من"شرح منتهى الإرادات" (1/ 608).
ثانياً:
خلط لحم الأضاحي يؤدي إلى إشكال، وهو أن القسمة، وأخذ المضحي لحما بدل لحم، يعتبر بيعا للحم الأضحية، عند بعض أهل العلم. والأضحية لا يجوز بيع شيء منها.
قال المواق المالكي في التاج والإكليل: "وقال ابن يونس: إذا اختلطت أضحيتا رجلين بعد ذبحهما: فإنهما يجزئانهما، ولا يأكلان لحمهما، وليتصدقا به.
ابن يونس: إنما أجزأتاهما؛ لأنهما بالذبح وجبتا أضحية، فلا يقدح اختلاطهما في الأجزاء.
وإنما لم يأكلا لحمهما: لأن كل واحد قد يأكل لحم شاة صاحبه، فيصير بيعا للحم أضحيته، بلحم أضحية صاحبه». انتهى من "التاج والإكليل لمختصر خليل" (4/ 380).
والقول الثاني في المسألة: أن الأضاحي تجزئ عن أصحابها، كما سبق، وأنه ، عند اختلاط لحوم الأضاحي، بعضها ببعض: فلا بأس أن يقتسموا اللحم بما أمكنهم، ولو كان ما خرج لأحدهم هو في واقع الأمر من أضحية صاحبه. وهكذا لو كان ما أخذه أحدهم أكثر مما أخذه الآخر من أضحية صاحبه؛ فإن هذه القسمة لا يراد بها البيع، فإن الجزار غير مأذون له في البيع أصلا، بل هو مؤتمن على ذبح الأضاحي، وتسليما لأصحابها على القول الصحيح المعتمد؛ وإنما يراد بها "إفراز" حق كل منهم عن حق صاحبه، وهذا جائز في الأضاحي وغيرها.
قال النووي، رحمه الله: " قال أصحابنا: وإذا اشترك جماعة في بدنة أو بقرة، وأرادوا القسمة: فطريقان: (أحدهما): القطع بجواز القسمة؛ للضرورة. وهذا قول ابن القاص صاحب التلخيص.
(والثاني)، وهو المذهب، وبه قال جماهير الأصحاب: أنه يبني على أن القسمة بيع، أو فرز النصيبين؟
وفيها قولان مشهوران: (الأصح) في قسمة الأجزاء، كاللحم وغيره: أنها فرز النصيبين.
(والثاني): أنها بيع.
(فإن قلنا): إفراز؛ جازت. (وإن قلنا) بيع فبيع اللحم الرطب بمثله لا يجوز …". انتهى، من "المجموع شرح المهذب" (8/ 422 ط المنيرية).
وقال الشيخ زكريا الأنصاري، رحمه الله: " (فرع تجزئ البدنة أو البقرة عن سبعة)، كما تجزئ عنهم في التحلل للإحصار ولخبر مسلم عن جابر «نحرنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وظاهر أنهم لم يكونوا من أهل بيت واحد، ولخبر مسلم عن جابر أيضا قال: «خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مهلين بالحج فأمرنا أن نشرك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» (ولهم القسمة) أي قسمة اللحم بناء على أن قسمته كسائر المتشابهات إفراز كما اقتضاه كلام الأصل هنا وصرح بتصحيحه في المجموع.
"أسنى المطالب" (1/527).
وقال البهوتي، رحمه الله: " (وهذه القسمة) وهي قسمة الإجبار: (إفراز) لحق أحد الشريكين من الآخر، (لا بيع)؛ لأنها تخالفه في الأحكام، فيصح قسم لحم هدي وأضاحي، وثمر يخرص خرصا، وما يكال (1) وزنا، وعكسه، وموقوف ولو على جهة، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع، ومتى ظهر فيها غبن فاحش؛ بطلت.
(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، و) أن يتقاسموا (بقاسم ينصبونه أو (2) يسألوا الحاكم نصبه)، ويجب عليه إجابتهم؛ لقطع النزاع.
ويشترط: إسلامه، وعدالته، ومعرفته بها، ويكفي واحد إلا مع تقويم". انتهى، من "الروض المربع" (3/495).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " فقوله: «إفراز» يعني تمييز لحق كل شريك من حق شريكه. وقوله: «لا بيع»: ولهذا لم نشترط فيها التراضي، ولا يثبت لها أحكام البيع، فليس فيها خيار مجلس، وتجوز بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأنها ليست ببيع ما دامت لا تشغله، وتجوز في المسجد مثل لو كان بيني وبينك كيس من الرز، وقسمناه في المسجد فلا مانع؛ لأن هذه ليست بيعاً، وإنما إفراز نصيب كل واحد من الآخر، ويجوز قسم لحم الأضاحي والهدايا مع أن بيع لحم الأضاحي والهدايا لا يجوز، لكن هنا تجوز القسمة؛ لأن هذه ليست بيعاً." انتهى، من "الشرح الممتع" (15/175).
وينظر أيضا: "المبدع" (8/273)، "الإنصاف" (29/81)، قواعد ابن رجب (3/370) وما بعدها، ط ركائز.
ومع أن لـ"لحوم الأضاحي" كاف في هذا المقام؛ إلا إنه إذا قدر أن كلامهم في قسمة لحم الأضحية الواحدة، إذا كانت شركة بين اثنين أو أكثر؛ فلا يختلف هذا عن اختلاط لحم أضحيتين أو أكثر؛ فإنه إذا صح قسمة لحم الأضحية الواحدة هكذا، صح كذلك قسم لحوم الأضاحي الكثيرة، إذا اختلطت، على نحو ما جاء في السؤال.
وينظر للفائدة: نهاية المطلب: 6/355 ، 18/556 ، "قواعد ابن رجب (1/1664-165)، وما ذكروه في اختلاط الوديعة بغيرها: "المعاملات المالية" للدبيان (19/241).
وقد صرح الأحناف بالجواز في صورة المسألة.
جاء في "الفتاوى الهندية" (5/305- 306). "ولو اشترى عشرة عشر أغنام بينهم فضحى كل واحد واحدة جاز، ويقسم اللحم بينهم بالوزن، وإن اقتسموا مجازفة يجوز، إذا كان أخذ كل واحد شيئا من الأكارع أو الرأس أو الجلد، وكذا لو اختلطت الغنم فضحى كل واحد واحدة، ورضوا بذلك جاز".
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى -: عن قسمة اللحم بلا ميزان؟ وقسمة التين والعنب والرمان والبطيخ والخيار عددا؟
فأجاب: " أما قسمة اللحم بالقيمة: فالصحيح أنه يجوز؛ فإن القسمة إفراز بين الأنصباء؛ ليست بيعا على الصحيح.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاسم أهل خيبر خرصا، فيخرص عبد الله بن رواحة ما على النخل، فيقسمه بين المسلمين واليهود، ولا يجوز بيع الرطب خرصا.
وكذلك كان المسلمون ينحرون الجزر، ويقسمونها بينهم بلا ميزان؛ كانوا يفعلون ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جميع هذا الباب: يجوز قسمة التين والعنب، بغير كيل ولا وزن، وتجوز قسمة الرمان عددا، وكذلك البطيخ والخيار. هذا هو الصحيح في المعدودات كلها: أنها تقسم بالقيمة.
وليست هذه القسمة بيعا؛ لكنَّ تعديل الأجزاء معتبرٌ فيه الخبرة.
والمقصود أنه يجوز أن تعدل الأنصاب بما يمكن؛ إما من كيل، أو وزن إن أمكن؛ وإلا بالخرص والتقويم؛ ليس هذا مثل البيع؛ فإن القسمة جائزة في جميع المال ويجوز قسمة التمر قبل بدو صلاحه. والله أعلم". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (35/ 419).
لكن إذا كان الجزار يعلم من الحال أنه سوف يشق عليه تمييز الأضاحي، والغالب أنها ستختلط، ويأخذ بعضه من لحم بعض، على ما سبق؛ فينبغي عليه أن يعلم المضحين بذلك، ويستسمح نفوسهم بما يقع من الاختلاط، ومشقة التمييز، لتطيب نفوسهم بهذه الخلطة.
وقد روى البخاري (2486) ومسلم (2500) عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ).
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد في السفر، وفضيلة جمعها في شئ عند قلتها في الحضر، ثم يقسم، وليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومنعها في الربويات واشتراط المساواة وغيرها، وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضا ومواساتهم بالموجود" انتهى.
والحاصل:
أنه ينبغي على من يتولى ذبح الأضاحي للناس: أن يميز بعضها عن بعض، ولو كان بمشقة محتملة له.
فإن تعذر ذلك، أو كانت فيه مشقة بالغة، وحصل اختلاط لبعض الأضاحي ببعض، فإنه يعمل بغلبة ظنه، ويجتهد في أن يعطي كل واحد من أضحيته، ولا حرج عليه لو أعطى واحدا من غير أضحيته، وهكذا، ولهم أن يأكلوا مما أخذوه من اللحم، ولو علموا أن الأضاحي كانت قد اختلطت عند الجزار.
وظهر بذلك: أنه لا محذور من الربا في ذلك، على القول الصحيح، لأن هذا ليس بيعا، بل تمييز للحقوق، ولو كان بيعا، لتولى كل واحد بيع لحمه، أو كل من يبيعه له على غيره، وحصل التشاح فيه، واستقصاء الحقوق.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب