حلفت ألا أفعل شيئا لمدة شهرٍ واحدٍ، وكنا في أول الثلث الأخير من شهر أغسطس الميلادي، فكيف أحسب أيام ذلك الشهر الذي وقع يميني عليه؟ هل يكون واحد وثلاثون يوما، أم ثلاثون يوما، أم تسع وعشرون، أو ثمان وعشرون؟ أم آخذ بالاحتياط فأجعله واحد وثلاثون يوما؟ علما أن العرف أن الشهر ثلاثون يوما.
حلف على عدم فعل شيء لمدة شهر، فكيف يحسب الشهر؟
السؤال: 476888
ملخص الجواب
إذا كان العرف عندكم أن الشهر ثلاثون يوما؛ فأمسك عما حلفت عليه مدة ثلاثين يوما، ابتداء من اليوم الذي حلفت فيه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
من حلف على ترك شيء لمدة شهر، فله أحد حالين:
الحالة الأولى:
أن يكون ذلك في بداية الشهر ومستهله، فعليه أن يمسك عن ذلك الشيء إلى نهاية ذلك الشهر، مهما كان عدد أيامه، فإن كان مثلا في مستهل شهر محرم، فعليه أن يلتزم بيمينه إلى ظهور هلال صفر، سواء ظهر هلال صفر بعد ثلاثين من محرم أو بعد تسع وعشرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية: مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم أو يولي من امرأته في هلال المحرم، أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة؛ فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة، وإن كان بعضها أو جميعها ناقصا” انتهى من “مجموع الفتاوى” (25 / 143).
الحالة الثانية:
إن حدث هذا الحلف واليمين في خلال الشهر ووسطه وليس في مستهله، فقد اختلفت أقوال أهل العلم في كيفية تقدير هذا الشهر ونهايته.
فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يمسك أقصى عدد أيام الشهر، وهي ثلاثون يوما.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” فلو اتفق ذلك – أي الحلف واليمين – في أثناء الشهر: فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين ” انتهى من “فتح الباري” (9/292).
وقال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
“… وإن كان حلف في بعض شهر فيمينه على ثلاثين يوما، وهو قول الكوفيين ومالك والشافعي، واحتجوا بقوله عليه السلام: ( الشَّهْرُ تِسْعة وَعِشْرُونَ يومًا، فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاكْمِلُوا ثَلَاثِينَ )، ولا نراه قد أوجب عليهم ثلاثين يومًا، وجعلها على الكمال: حتى يروا الهلال قبل ذلك، وأخبر أنه إنما يكون تسعة وعشرين برؤية الهلال قبل الثلاثين، وقد روي هذا عن الحسن البصري ” انتهى من “التوضيح” (30/ 350).
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يأخذ بأقل ما يعرف في الشهر، وهو تسعة وعشرون يوما.
مستدلين بحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا، أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ) رواه البخاري (1910)، ومسلم (1085).
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
” وفيه دليل لقول محمد بن عبد الحكم: من حلف أن لا يفعل كذا شهرا، أنه يبر بتسع وعشرين يوما، وخالف مالك فقال: لا يبر إلا بثلاثين يوما، وقد اختلف في هذا الأصل هل تبرأ الذمة بأعلى الأشياء أو بما ينطلق عليه الاسم، فوقع لمالك في كتاب: الحج الثاني. فيمن قال: لله عليّ هدي، الشاة تُجزئ إن لم تكن نية. وفي كتاب: النذور – فيمن قال: إن فعلت كذا فعلي هدي – : عليه بدنة ” انتهى من “التوضيح” (30/349).
وقال اللخمي رحمه الله تعالى:
” وإن قال: لله عليّ أن أصوم شهرا، فابتدأه للهلال، فكان ذلك الشهر تسعة وعشرين يوما: أجزأه.
واختلف إذا ابتدأ لغير الهلال، فقال في المدونة: يصوم ثلاثين يوما، وقال محمد بن عبد الحكم: القياس أن تجزئه تسعة وعشرون يوما، فليس عليه إلا أقل الشهور عدة، كما لو قال: لله علي أن أصوم أياما، كان عليه أقل الأيام؛ وهي ثلاثة، قال: وكذلك لو قال: صدقة دراهم.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا أحسنُ، للسُّنَّة، والقياس، وهو أيضا أحد قولي مالك.
فأما السُّنة: فحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَاعْتَزَلهنَّ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَ، فَقِيلَ لَهُ: آلَيْتَ شَهْرًا، وَإِنَّمَا أَقَمْتَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؟ فقال: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ).
وأما القياس، فلأن كون الشهر تسعة وعشرين يوما ليس بنادر، ونقصان شهور السنة متساويا أو متقاربا لتمامها، فلم يكن إلزامه أحدهما أولى من الآخر، وقياسا على قول مالك فيمن قال: لله عليَّ هدي، فإن الشاة تجزئه، والشاة أقل الهدايا، وللهدايا أعلى وأدنى، فأعلاها البدن، وأدناها الغنم، فإن لم يلزمه أعلى الهدايا لم يلزمه أتم الشهور ” انتهى من “التبصرة” (2/ 806).
ومن أهل العلم من رجّح أنه إذا بدأ في يوم من أثناء الشهر ووسطه، فنهاية الشهر تكون بمثل هذا اليوم من الشهر التالي له، سواء كان الشهر الأول ناقصا أم كاملا.
فمثلا من حلف ترك شيء مدة شهر وكان ذلك في يوم 21 من شهر محرم مثلا، فإذا أتى يوم 21 من شهر صفر يكون قد خرج من يمينه؛ لأن هذا هو مقتضى العمل بالأهلة، كما في قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) البقرة (189).
ولأن هذا الذي عليه عمل الناس، وهو المطابق لعرفهم في حساب الأشهر عند المعاملات، إذا كان العقد في وسط الشهر.
قال القرافي رحمه الله تعالى:
” والمعتبر في النذور: النية، فإن عدمت فالعرف ” انتهى من “الذخيرة” (4/74).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر… الصواب الذي عليه عمل المسلمين قديما وحديثا: أن الشهر الأول إن كان كاملا كمل ثلاثين يوما، وإن كان ناقصا جعل تسعة وعشرين يوما. فمتى كان الإيلاء في منتصف المحرم، كملت الأشهر الأربعة في منتصف جمادى الأولى. وهكذا سائر الحساب.
وعلى هذا القول؛ فالجميع بالهلال ولا حاجة إلى أن نقول بالعدد، بل ننظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول، فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر، فإن كان في أول ليلة من الشهر الأول كانت النهاية في مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور، وهو أول ليلة بعد انسلاخ الشهور؛ وإن كان في اليوم العاشر من المحرم، كانت النهاية في اليوم العاشر من المحرم أو غيره، على قدر الشهور المحسوبة.
وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. ودل عليه قوله: ( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ )، فجعلها مواقيت لجميع الناس مع علمه سبحانه أن الذي يقع في أثناء الشهور أضعاف أضعاف ما يقع في أوائلها، فلو لم يكن ميقاتا إلا لما يقع في أولها، لما كانت ميقاتا إلا لأقل من ثلث عشر أمور الناس. ولأن الشهر إذا كان ما بين الهلالين: فما بين الهلالين مثل ما بين نصف هذا ونصف هذا سواء، والتسوية معلومة بالاضطرار. والفرق تحكم محض.
وأيضا فمن الذي جعل الشهر العددي ثلاثين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَسَ إِبْهَامَه فِي الثَّالِثَةِ )، ونحن نعلم أن نصف شهور السنة يكون ثلاثين، ونصفها تسعة وعشرين.
وأيضا فعامة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم إذا أجل الحق إلى سنة، فإن كان مبدؤه هلال المحرم كان منتهاه هلال المحرم، سلخ ذي الحجة عندهم، وإن كان مبدؤه عاشر المحرم كان منتهاه عاشر المحرم أيضا، لا يعرف المسلمون غير ذلك، ولا يبنون إلا عليه، ومن أخذ ليزيد يوما لنقصان الشهر الأول، كان قد غير عليهم ما فطروا عليه من المعروف، وأتاهم بمنكر لا يعرفونه؛ فعُلم أن هذا غلط ممن توهمه من الفقهاء، ونبهنا عليه ليحذر الوقوع فيه وليعلم به حقيقة قوله: ( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ )؛ وأن هذا العموم محفوظ عظيم القدر لا يستثنى منه شيء ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (25 / 143 – 145).
والجواب عن حديث أم سلمة، أنه ليس فيه نص على أنه اكتفى بأقل عدد أيام الشهر، بل يحتمل أنه عمل بتسعة وعشرين عملا برؤية الهلال.
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
” وفي رواية متفق عليها: ( إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ) فيحتمل أن ذلك الشهر الذي آلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه أخذ بالرخصة، فحسب الشهر تسعة وعشرين؛ لأنه يكون تسعة وعشرين و( ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ) ” انتهى من “التنبيه على مشكلات الهداية” (5 / 609 — 619).
والاحتمال بأن ذلك الشهر في تلك السنة كان تسعة وعشرين، هو الذي رجّحه وصوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية وأطال في بيان ذلك، كما في “مجموع الفتاوى” (25/ 161 — 164).
والذي يظهر لنا في جواب مسألتك أن يقال:
أما “واحد وثلاثون يوما”، وهي التي تكون عليها بعض الشهور الشمسية: فلا اعتبار به، ولا نظر إليه؛ فإن الشهر في الشرع إنما هو الشهر الهلالي، لا الشمسي.
وأما “ثلاثون” يوما: فعليه يكون الشهر الهلالي أيضا، إذا لم ير الهلال لتسعة وعشرين.
فإذا كان العرف عندكم، كما تقول: أن الشهر يكون ثلاثين يوما، تقوى العمل بذلك، ولا يكون خارجا عن الشهر الهلالي، وهو أيضا قول جمهور العلماء في تقدير الشهر، إذا كان الحساب من أثنائه.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
” والأصل في هذا الباب – أي باب اليمين- مراعاة ما نوى الحالف ” انتهى من “الكافي” (1/ 452).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما وإطلاقا وتقييدا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم، فكيف إذا علم قطعا أنهم أرادوا خلافه؟ واللَّه أعلم ” انتهى من “أعلام الموقعين” (5 / 534 – 535).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب