ما وجه حاجة المجتهد إلى مقاصد الشريعة في الأحكام التعبدية؟
كيف يستفاد من علم المقاصد في الأحكام التعبدية؟
السؤال: 480443
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا
إن معرفة مقاصد الشريعة سبب في زيادة الإيمان وتقويته، واستمالة القلب وطمأنينته.
قال الإمام الغزالي: "معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالةٌ للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق؛ فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص، وعلى قدر حذقه يزيدها حسنًا وتأكيدًا" انتهى، من "المستصفى" (339).
وقد أكد على أهمية المقاصد الشرعية بالنسبة للفقيه المجتهد الكثير من علماء الأمة، فالإمام الغزالي نظر لأهمية المقاصد إذ اعتبر مقاصد الشرع قبلة المجتهدين؛ من توجه إلى جهة منها أصاب الحق. انظر: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، للسيوطي (182).
واشترط غير واحد من الأصوليين معرفة المجتهد لمقاصد الشريعة، أكد ذلك الشيخ العز ابن عبد السلام، حيث قال: "من تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد: حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص؛ فإن فَهْمَ نفسِ الشرع يوجب ذلك" انتهى، من "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/189).
واعتبر الإمام الشاطبي رحمه الله العلم بمقاصد الشريعة، شرطًا أوليًا للاجتهاد، فقال: "إنما تحصل درجة الاجتهاد إلا لمن اتصف بوصفين: الأول: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على هذا الفهم" انتهى، من "الموافقات" (4/63).
وعلى هذا فمن يريد استنباط الحكم الشرعي من دليله يجب عليه أن يعرف أسرار الشريعة ومقاصدها العامة في تشريع الأحكام؛ لأن دلالة الألفاظ على المعاني قد تحتمل أكثر من وجه، ويرجح واحدًا منها ملاحظة قصد الشارع، كما أن الأدلة الفرعية قد تتعارض مع بعضها فيؤخذ بما هو الأوفق مع قصد الشارع، وقد تحدث أيضًا وقائع جديدة لا يعرف حكمها بالنصوص الشرعية، فيلجأ إلى الاستحسان أو المصلحة المرسلة، أو العرف أو نحوها، بواسطة مقاصد الشريعة العامة من التشريع.
انظر: "أصول الفقه الإسلامي" (2/1077) وهبه الزحيلي.
ثانيا:
أثر معرفة مقاصد العبادات على المكلفين:
من خلال معرفة المقاصد يستطيع أن يفرق بين العبادات التعبدية والمعللة، نظرًا وعملًا:
1- أعظم أثر لفهم المجتهد لمقاصد العبادات: قدرته على التفريق بين التعبدي والمعلل فلا يعلل تعبُّديًا، ولا يعبَّد معللًا؛ إذ الخطأ في أحدهما يعود على قصد الشارع من العبادة بالضعف أو الإلغاء؛ للتباين والافتراق الواسع بين المقصدين.
قال ابن العربي: (ت 543هـ): "الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها، أو يقع التعبد بمعناها، فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها. وإن وقع التعبد بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي ذلك المعنى" انتهى، من "أحكام القرآن" (1/35).
فلا يكفي أن يلحق المجتهد الحكم بأصل التعبدي أو المعلل؛ بل يجب أن يعرف مواطن التعبد، ومواطن التعليل في الحكم الواحد؛ فحتى لو غلَّب أحدَهما، وأضاف الحكم إلى التعبدي أو المعلل؛ فلا يترك الجانب الآخر ويهمله.
قال الغزالي – في طبيعة الزكاة التعبدية والمعقولة فيها -: " ولا ينسى أدق المعنيين، وهو التعبد والاسترقاق، بسبب أجلاهما، ولعل الأدق هو الأهم، والزكاة من هذا القبيل، ولم ينتبه له غير الشافعي؛ فحظ الفقير مقصود في سد الخلة، وهو جلي سابق إلى الأفهام، وحق التعبد في اتِّباع التفاصيل: مقصود للشرع" انتهى، من "إحياء علوم الدين (1/213)".
2- وعلى هذا؛ فأول نظر المجتهد في الأمر والنهي: استنباط المعاني المناسبة، واختبارها والتأكد من صحتها؛ فإذا صحت: اعتُبرت، وأخذ بها، وبُنيت عليها الأحكام؛ لما لها من اهمية كبيرة في تحصيل مقاصد الشارع.
قال إمام الحرمين: "فإن نظر الناظر، ولم يلح له معنى مناسب للحكم: مُخِيل به، فيعلم أن الحكم ليس معللًا بمعنى" انتهى، من "البرهان" (2/66).
3- وتظهر أهمية بناء الفروع على أصل التعبد والتعليل في الأحكام، من جهة إقامة المناسبة والملاءمة بين العمل والعبادة؛ فالحكم المعلَّل لا يناسب التعبدي، والتعبدي لا يناسب المعلل؛ فالتناسب بين قدر العبادة: زمانًا ومكانًا وحالًا، وإنزالها مرتبتها المناسبة لها، قوة وضعفًا، هو الحافظ لها من تعطيلها أو بعضها، في زمان أو مكان أو حال يجب إعمالها. أو إعمالها في زمان أو مكان أو حال يجب تعطيلها فيه؛ فيعمل قدرها المناسب في زمانها المناسب.
قال العز ابن عبد السلام: "فطوبى لمن فهم خطابه، وتبع كتابه، وقبل نصائحه، فمن أفضل منائحه: تفهم كتابه، وتعقل خطابه، ليتقرب بذلك إليه، شكرًا على ما أولاه من إيلائه ومنحه وإعطائه" انتهى، من "قواعد الإحكام" (1/166).
وتعليل ذلك: أن المقصد الصحيح للعبادة: ميزان ومِقْود العمل؛ يوجهه ويحدد مساره. فإذا صلح صلُح العمل، وإذا فسد فسد العمل.
قال إمام الحرمين: "والتعويل في فهم معاني التكليف على المقاصد؛ فلو تبدل أو انقلب المقصد عن المكلف، ضاعت مصالح العبادات كلها، بل مصالح الشريعة" انتهى، من "نهاية المطلب" (17/360).
4- ولهذه المصالح والمعاني الكبيرة في فهم المقاصد الشريعة فهمًا صحيحًا، عظم الشاطبي قدر ومنزلة من فهم مقاصد كل جهة من جهات الشريعة، بل وكل مسألة من المسائل بقول: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها؛ فقد حصل له وصف، هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا، والحكم بما أراه الله" انتهى، من "الموافقات (4/106)".
وبصفة عامة:
فإن ما يستفيده المجتهد في معرفته لمقاصد الشريعة الإسلامية: إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية، والعامة والخاصة في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة، وتمكين الفقيه من الاستنباط في ضوء المقصد الذي سيعينه على فهم الحكم وتحديده وتطبيقه، وعون المكلف على القيام بالتكليف والامتثال على أحسن الوجوه وأتمها، والتقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي والتعصب المذهبي. انظر: "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (106-114).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب