هل يحق لمن يهدي إلي هدية أن يحلف علي بأن لا أهديها لأحد، ولا أتصدق بها، وأن لا أبيعها إذا لم أكن في حاجتها، لأن هذا الشيء متكرر، كلما أهدى لي هديه حلف علي ألا أتصدق بها، ولا أعطيها لأحد؟ وهل يجوز لي هنا أن أرد الهدية عليه ؟وهل علي اثم إذا تصدقت بهذا الشيء؟
من وهب غيره شيئا، وشرط عليه ألا يهبه أو يبيعه، فالشرط باطل في قول جمهور الفقهاء، واختلفوا في صحة الهبة، فذهب الحنفية والحنابلة إلى صحتها مع بطلان الشرط، وذهب الشافعية إلى بطلانها.
ووجه بطلان الشرط: أنه مناف لمقتضى العقد؛ إذ مقتضاه أن من ملك الهبة، ملك التصرف فيها.
قال العبادي الحنفي في "الجوهرة النيرة" (1/331): " وإذا وهب هبة وشرط فيها شرطا فاسدا، فالهبة جائزة، والشرط باطل، كمن وهب لرجل جارية واشترط عليه أن لا يبيعها، أو أن يتخذها أم ولد، أو يردها عليه بعد شهر؛ فالهبة جائزة، وهذه الشروط باطلة؛ لأنه لا يقتضيها العقد" انتهى.
وجاء في "المدونة" (4/ 406):
" قال: ولقد سألت مالكا عن الرجل يهب الهبة على أن لا يبيع ولا يهب ؟
قال: قال مالك: لا تجوز هذه الهبة.
قال: فقلت لمالك : فالأب في ابنه إذا اشترط هذا الشرط ؟
قال مالك: لا يجوز؛ إلا أن يكون صغيرا أو سفيها، فيشترط ذلك عليه ما دام الولد في تلك الحال. فأما أن يشترط عليه ألا يبيع ولا يهب إن كبر، أو اشترط على السفيه أن لا يبيع وإن حسنت حاله، فإن ذلك لا يجوز؛ وإنما يجوز شرطه إذا اشترطه، ما دام سفيها أو صغيرا.
[سحنون]: قال : وأخبرني ابن وهب عمن حدثه عن ابن عمر أنه سئل: عن الرجل يهب الهبة للرجل على أن لا يبيعها ولا يهبها؟
فكره ابن عمر ذلك .
قال ابن وهب : وأخبرني أن الليث كرهها أيضا مع مالك" انتهى.
وعلى هذه الرواية عن مالك: لا تصح الهبة إلا أن يسقط المعطي شرطه، وينظر: "فتح العلي المالك" (2/ 239).
وقال الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (5/409): " ولا تصح الهبة بأنواعها مع شرط مفسد؛ كأن لا يزيل ملكه عنه. ولا مؤقتة، ولا معلقة؛ إلا في مسائل العمرى والرُّقْبى" انتهى.
وفرق الشافعية بين هذا الاشتراط، وبين أن يعطيه الهبة ليستعملها في شيء معين من غير شرط، فيلزمه أن يفعل ذلك.
قال الشبراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج: " (قوله: لا يزيل ملكه): وكشرط أن يشتري به كذا، كما صرح به حج، بخلاف ما لو دفعه ليشتري به ذلك، من غير تصريح بالشرط، فإنه يصح، ويجب عليه شراء ما قصده الدافع" انتهى.
وقال البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (4/307) : " ( ولا ) يصح أيضا ( شرط ما ينافي مقتضاها ) أي : الهبة؛ ( نحو ) اشتراط الواهب على المتَّهب ( أن لا يبيعها )، أي : العين الموهوبة ( ولا يهبها )، وأن لا ينتفع بها، ( أو ) وهبه عينا , و ( يشرط أن يبيعها أو يهبها ): فلا يصح الشرط؛ إذ مقتضى الملك التصرف المطلق، فالحجر فيه منافٍ لمقتضاه ...
( وتصح هي ) أي : الهبة المشروط فيها ما ينافي مقتضاها، كالشروط الفاسدة في البيع" انتهى.
القول الثاني: ذهب بعض المالكية إلى صحة هذا الشرط، وأن العين الموهوبة تكون كالوقف، لا تُباع، ولا يُتصرف فيها إلى أن يموت الموهوب له.
قال عليش المالكي في "فتح العلي المالك" (2/ 239) نقلا عن ابن هارون: " مسألة: ولو كانت الهبة والصدقة على أن لا يبيع، ولا يهب، ففي ذلك خمسة أقوال.
أحدها: أن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يسقط المعطي شرطه، فإن مات المعطي أو المعطى قبل الإسقاط: بطلت الصدقة والهبة، ونحوه روى سحنون عن ابن القاسم في "العُتْبية"، وهو ظاهر قوله فيهما...
الرابع: أن الشرط والهبة ماضيان، فتكون العطية على هذا بيد الموهوب له، أو المتصدق عليه، بمنزلة الحَبْس؛ لا يبيع، ولا يهب، حتى يموت، فإذا مات وُرثت عنه كَمالِه، وهو قول عيسى ابن دينار في العتبية، وقول مطرف في الواضحة، وهو أصوب الأقوال..." انتهى.
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الأصل في الشروط الصحة، وأن الشرط الممنوع ما خالف الشرع، وأما الذي لم يخالفه فلا يمنع، ولو خالف مقتضى العقد.
ووافقه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وصحح ما لو باع وشرط عليه أن لا يبيع ولا يهب، إذا كان للبائع غرض صحيح من هذا الشرط، كانتفاع المشتري بالسلعة وعدم التفريط فيها.
وينظر: "الشرح الممتع" (8/244).
فعلى هذا القول لا حرج على الواهب لو شرط في الهبة ألا تبُاع ولا توهب، ما دام له غرض صحيح من ذلك، وتكون العين الموهوبة لدى الموهوب إلى أن يموت، فإن مات انتقلت إلى ورثته، وجاز لهم بيعها وهبتها.
وهذا القول له قوته ووجاهته، وحيث كان كذلك، فلا حرج على من أخذ به.
وحينئذ إما أن تقبل الهبة، وتعمل بشرط الواهب، وإما أن تمتنع من قبولها، أو تخبر الواهب أنك إن أخذتها فلن تتقيد بشرطه. لا سيما وكثير ممن يرى بطلان هذا الشرط، يرى بطلان الهبة كذلك!! فيلزم على ذلك أن تستقيل من هذا الشرط، أو ترد عليه هبته.
وقبول الهبة ليس واجبا.
قال النووي رحمه الله: " إذا عُرض عليه مال من حلال، على وجه يجوز أخذه، ولم يكن مِنْهُ مسألة ولا تطلع إليه: جاز أخذه بلا كراهة، ولا يجب.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب ; لحديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول أعطه أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه؛ وما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك. قال فكان سالم لا يسأل احدا شيئا، [ولا يرد شيئا أعطيه] أعطيه " رواه البخاري ومسلم.
دليلنا: حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي , ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي , ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ , إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ , وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ , وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُوَ حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ , فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ , أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وقوله: " يَرْزَأُ ": - مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا ... ,
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ عَلَى هَذَا. وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الْحَاضِرِينَ رضي الله عنهم , وَحَدِيثُ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ " انتهى من "شرح المهذب" (6/ 234).
وينظر: "كشاف القناع" (4/321).
والله أعلم.