حكم اقتراض عقارات وبيعها، واستخدام حقها بكامل حريتي دون الرجوع لمن أقرضني، وبعد انقضاء الأجل المتفق عليه بيننا إما أن أشتري له نفس العقارات، أو أرد له قيمتها نقد بسعر يومها الذي ينقضي فيه الأجل، فهل هذا جائز؟ وإن كان مخالفا للشريعة فأرجو اقتراح حل شرعي يفي بغرضي؟
هل يجوز قرض العقار؟
السؤال: 496211
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
ينبغي أن يُعلم أولا ما الذي يصح قرضه، وما لا يصح.
وقد اتفق الفقهاء على جواز قرض المثليَّات، التي يصح فيها السلم، وهي ما تنضبط بالصفة.
والمثلي من الأموال: كلُّ ما يوجد له مِثل في السوق، بلا تفاوت يُعْتَدّ به، كالمكيل والموزون، والنقود.
ويقابله المال القيمي؛ وهو ما لا يوجد له مثل في الأسواق، أو يوجد، ولكن مع التفاوت المعتدِّ به.
وينظر: “المعاملات المعاصرة”، للدبيان (18/ 179).
واختلف الفقهاء في إقراض المال القيمي، على ثلاثة أقوال:
1-أنه لا يصح إقراضه؛ لأن غير المثلي لا يثبت في الذمة، وهو مذهب الحنفية.
قال في “البحر الرائق” (6/133): ” (تتمة) في مسائل القرض:
قال في المحيط: ويجوز القرض فيما هو من ذوات الأمثال، كالمكيل، والموزون والعددي المتقارب، كالبيض، والجوز؛ لأن القرض مضمون بالمثل، ولا يجوز في غير المثلي؛ لأنه لا يجب دينا في الذمة” انتهى.
وعليه؛ فلا يصح قرض العقار عندهم؛ لأنه غير مِثْلي.
2-يجوز إقراض القِيمي الذي يصح السلم فيه، وهو ما ينضبط بالوصف، وهو مذهب المالكية والشافعية.
قال الدردير في “الشرح الكبير” (3/222): ” يجوز قرض ما يُسلم فيه، أي كل ما يصح أن يسلم فيه، من عرض وحيوان ومثلي … أي دون ما لا يصح السلم فيه، كدار وبستان وتراب معدن، وصائغ وجوهر نفيس؛ فلا يصح فيه القرض ” انتهى.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في شرح منهج الطلاب: ” (وإنما يقرض ما يُسْلم فيه)؛ معينا كان أو موصوفا؛ لصحة ثبوته في الذمة، بخلاف ما لا يُسلم فيه؛ لأن ما لا ينضبط، أو يندُر وجوده: يتعذر أو يتعسر رد مثله.
نعم؛ يجوز إقراض نصف عقار فأقل”.
قال الجمل في حاشيته عليه (3/ 258): “وإنما يصح قرضه؛ لإمكان تحصيل المِثل المردود، وهو النصف الثاني، أو الأقل منه، وأما ما زاد على النصف فلا يصح قرضه، كما لا يصح سلمه، كذلك العقار بتمامه لا يصح قرضه، ولا سلمه.
وهذا كله في الشائع، وأما المعين، فلا يصح قرضه، سواء كان عقارا، أو نصف عقار، أو أقل من النصف، أو أكثر منه، كما لا يصح السلم في هذا كله” انتهى.
وعليه؛ فلا يصح قرض العقار عندهم أيضا، إلا أن الشافعية أجازوا قرض الشريك نصفَ عقارٍ مشاع، لشريكه، لأن له مثلا، يمكن رده، وهو النصف الآخر.
وصورته: أن يكون عقار ملكا بين شخصين، لكن لم يقتسماه، بل هو ملك بينهما على المشاع، فلكل منهما استحقاق مشاع ، في كامل العقار، بقدر النصف؛ فهذا يجوز فيه القرض عند الشافعية، بالقيد المذكور.
ولا يجوز للشريك أن يقرض شريكه نصفا معينا من عقار مشترك بينهما؛ إذا كان لكل منهما “نصف العقار”؛ لكن ملك كل واحد متميز عن ملك صاحبه، كأن تكون قطعة واحدة من الأرض، أو بيت واحد، ولكل منهما نصف متميز منها عن النصف الآخر الذي يملكه صاحبه؛ فهنا لا يجوز لأي منهما أن يقرض النصف الذي يملكه لصاحبه؛ لأن هذا النصف المعين: ليس له مثل، فيرده إليه.
قال الشيخ زكريا الأنصاري، رحمه الله، في “الغرر البهية” (3/67) ” وما لا يجوز السلم فيه لا يجوز إقراضه؛ لأن ما لا يضبط يتعذر رد مثله، فلا يجوز”.
قال الشيخ عبد الرحمن الشربيني، في حاشيته عليه: ” لأنه لا يوجد له مثل في الصورة، وإن كان له نظير من عقار آخر، والذي يرد إنما هو المثل الصوري، ومن هذا التعليل يعلم جواز إقراض نصف عقار فأقل شائعا عينا ومنفعة؛ لأن له مثلا صوريا، وهو النصف الآخر أما ما زاد على النصف فلا؛ لأنه لا يوجد له مثل في الصورة، وكذا المعين؛ لأنه قد يتلف ويكون الباقي غير مماثل للمأخوذ، فلا يرضى به المقرض؛ لأنه لا يجبر على الاستبدال، فيتعذر رد المثل الصوري بخلاف الشائع حيث كان نصفا فأقل” انتهى.
3-جواز قرض المال القيمي، وهو مذهب الحنابلة، وابن حزم. قال الحنابلة: يرد قيمته يوم القرض.
قال في “شرح منتهى الإرادات” (2/ 100): ” (ويصح) القرض (في كل عين يصح بيعها)؛ من مكيل وموزون وغيره، وجوهر وحيوان …
(و) يجب رد (قيمة غيرهما) أي المكيل والموزون المذكور؛ لأنه لا مثل له، فضُمِن بقيمته، كما في الإتلاف والغصب، (كجوهر ونحوه) مما تختلف قيمته كثيرا: تعتبر قيمته (يوم قبض)؛ لاختلاف قيمته في الزمن اليسير، بكثرة الراغب وقلته، فتزيد زيادة كثيرة، فينضر المقترض، أو تنقص فينضر المقرض.
(وغيره) أي: الجوهر ونحوه كمذروع ومعدود تعتبر قيمته (يوم قرض)؛ لأنها تثبت في ذمته ” انتهى.
وصرح ابن حزم بجواز قرض العقار، فقال في “المحلى” (6/355): “والقرض جائز في الجواري، والعبيد، والدواب، والدور، والأرضين، وغير ذلك؛ لعموم قوله تعالى: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة: 282]؛ فعم تعالى ولم يخص، فلا يجوز التخصيص في ذلك بالرأي الفاسد، بغير قرآن، ولا سنة.
وقولنا في هذا: هو قول المزني، وأبي سليمان، ومحمد بن جرير، وأصحابنا” انتهى.
وعُلم بهذا أن مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية أنه لا يجوز قرض العقار.
وأنه يجوز ذلك على مذهب الحنابلة، لكن يرد المقترض قيمة العقار يوم القرض.
والحنابلة يفرقون في القيمي بين الجوهر وغيره، فالجوهر ترد قيمته يوم قبضه، بخلاف غيره؛ لأن الجوهر قد يتغير سعره بين يوم عقد القرض، وبين قبضه بعد ذلك بيوم أو يومين مثلا.
ورجح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن المتقوم كله ترد قيمته يوم القرض.
قال رحمه الله (9/105): ” مثال آخر: الأقلام متقومة، وكذلك الساعات متقومة؛ لأن فيها صناعة مباحة، فعلى المذهب يجب أن يرد قيمتها، ولكن كيف تعرف القيمة؟
الجواب: أن نقول: ماذا يساوي هذا الشيء حين القرض؟ ويثبت في ذمة المستقرض قيمته، هذا هو القول الراجح.
مثاله: أقرضني شخص بعيراً والبعير متقوم، فنقول: كم قيمته وقت القرض؟ قال: قيمته خمسة آلاف، إذاً يثبت في ذمة المستقرض خمسة آلاف؛ لأن غير المثلي تثبت قيمته، ولهذا قال: والقيمة في غيرها.
لو قال قائل: لماذا لا تجعلون القيمة وقت الوفاء؟
نقول: لأنها دخلت ملك المستقرض من حين قبضها، فاعتبرت القيمة في ذلك الوقت.
وقيل: إن المعتبر وقت القرض؛ إلا في الجواهر ونحوها مما يتغير بسرعة.
ولكن الصحيح أن المعتبر القيمة وقت القرض؛ لأنه هو الوقت الذي ملكت فيه ما أقرضني ” انتهى.
ثانيا:
قد تبين أنه على القول بجواز قرض العقار، فإنكما تعرفان قيمته يوم القرض، أي سعره في السوق، وتثبت هذه القيمة في ذمتك.
ولم يقل أحد من أهل العلم بأن المعتبر قيمته يوم الوفاء، وهو ما تريده أنت وصاحبك.
ولا شك أن المقرض لا يقبل في مثل هذا أن يقوم عقاره يوم القرض، ويكون هذا هو ماله، لأن قيمة العقار تتغير تغيرا كبيرا، مع طول مدة القرض، وقيمة العملة في بلدك، وكثير من البلدان التي تشبهها: تنخفض باطراد؛ فيتضرر المقرض بذلك غاية الضرر، وهو لا يقبله؛ ولا يحصل لكما مقصودكما من قرض العقار بدلا من النقود بمثل ذلك.
وعلى ذلك؛ فالمخرج لكما من هذا الإشكال: أن تشتري العقار مؤجلا، أو مقسطا، بعملة أخرى كالدولار، أو بذهب تتفقون على وزنه وعياره؛ فتتصرف أنت فيه بما تشاء، ويثبت في ذمتك ثمنه بالدولار، أو بالذهب الذي اتفقتما عليه.
ولا يجوز الاتفاق – عند العقد – على سداده بعملة أخرى كالجنيه مثلا؛ لأنه يكون صرفاً مؤجلا، وهو ربا.
لكن إن جاء وقت السداد، جاز-من غير اتفاق سابق- أن تدفع بدلا من الدولارات – جنيهات بسعر يوم السداد؛ إذا رضي البائع بذلك. فإن لم يرض، لزمك أن ترد إليه ما وقع عليه العقد، من دولارات، أو ذهب، أو نحو ذلك.
والأصل في ذلك: ما روى أحمد (6239)، وأبو داود (3354)، والنسائي (4582)، والترمذي (1242)، وابن ماجه (2262) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: “كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدَّنَانِيرِ [أي مؤجلا]، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ).
والحديث صححه بعض العلماء كالنووي، وأحمد شاكر، وصححه آخرون من قول ابن عمر، لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم منهم الحافظ ابن حجر والألباني. وانظر: “إرواء الغليل” (5/ 173).
قال ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (4/ 37): ” ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الأخر، ويكون صرفا بعين وذمة، في قول أكثر أهل العلم” انتهى.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 75 (6/8) بشأن قضايا العملة، ما يلي:
” ثانياً: يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد – لا قبله – ، على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين، إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد.
وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة، الاتفاق يوم سداد أيّ قسط، على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم.
ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة …
رابعاً: الدين الحاصل بعملة معينة، لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها” انتهى من “مجلة المجمع” عدد 3 جزء 3 ص 1650.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب