هل يعتبر الفصل بين شخصين يجلسان في المسجد ذنبا؟ قلت ذلك لشخص عشوائي في المسجد يوم الجمعة، وأشكّ في أنني سأراه مرة أخرى، ولم أستطع تقديم دليل، وهل من الواجب أن أجد دليلاً وأقدمه؟
أولا:
من آداب من يحضر الجمعة ألّا يفرق بين الجالسين.
روى البخاري (910): عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِما اسْتَطاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ راحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى ما كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إذا خَرَجَ الإِمامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى).
وبوّب عليه الإمام البخاري بقوله: " بابٌ: لا يُفَرَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الجُمُعَةِ " انتهى.
وورد النهي عن التفريق بين اثنين إلا بإذنهما.
فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا).
رواه أبو داود (4845)، والترمذي (2752)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ".
وبوّب عليه الترمذي بقوله: " بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا " انتهى.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" من آداب الجمعة: ألا يفرق بين اثنين، يعني لا تأتي بين اثنين تدخل بينهما، وتضيق عليهما.
أما لو كان هناك فرجة: فهذا ليس بتفريق؛ لأن هذين الاثنين هما اللذان تفرقا.
لكن أن تجد اثنين متراصين، ليس بينهما مكان لجالس؛ ثم تجلس بينهما!! هذا من الإيذاء " انتهى. "شرح رياض الصالحين" (4/355).
وقال رحمه الله تعالى:
" ومن آداب المجالس: ما ذكره المؤلف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا)، يعني إذا جئت ووجدت شخصين، جلس أحدهما إلى جنب الآخر؛ فلا تفرق بينهما إلا إذا أذنا لك في هذا، إما إذنا باللسان، يعني إذا قال أحدهما: تعال اجلس هنا، أو بالفعل، بأن يتفرق بعضهما عن بعض إشارة إلى أنك تجلس بينهما؛ وإلا، فلا تفرق بينهما؛ لأن هذا من سوء الأدب إن قلت تفسح، ومن الأذية إن جلست وضيقت عليهما " انتهى. "شرح رياض الصالحين" (4/357).
ثم إن في التفريق بينهما إبعادًا لأحد الجالسين عن مكانه، وهذا ظلم وإيذاء.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا" رواه البخاري (6270)، ومسلم (2177).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يقام الرجل من مجلسه: إنما كان ذلك لأجل أن السَّابق لمجلس قد اختصَّ به إلى أن يقوم باختياره عند فراغ غرضه؛ فكأنه قد ملك منفعة ما اختصَّ به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه.
وعلى هذا، فيكون النهي على ظاهره من التَّحريم. وقيل: هو على الكراهة. والأول أولى " انتهى "المفهم" (5/509).
فالواجب على من احتاج إلى الجلوس بين اثنين: أن يستأذن منهما قبل الجلوس، فإن أذنا بذلك جلس، وإلا فلا يجلس بينهما.
ثانيا:
من أراد أن ينصح مسلما فلا يجب أن يذكر الدليل على صحة نصيحته، وإن كان ذلك أفضل وأكمل.
لكن الذي يجب هو ألّا يتكلم المسلم إلا بما يعلم صحته.
قال الله تعالى: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء /36.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم، ويشمل ذلك قوله: رأيت، ولم ير. وسمعت، ولم يسمع، وعلمت، ولم يعلم.
ويدخل فيه كل قول بلا علم، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم، وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر " انتهى. "اضواء البيان" (3/682).
وعَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) … ) رواه البخاري (4809)، ومسلم (2798).
والله أعلم.