ظهر لي في أحد الصفحات في الفيس بأن ابن عبدالهادي الحنبلي وابن قدامة الحنبلي وابن المفلح الحنبلي قد تصوفوا، وأنهم لبسوا خرقة التصوف، فهل هذا صحيح؟
أولاً:
ذكروا عن الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله أنه لبس الخرقة: "قال الشيخ شمس الدِّين (سبط ابن الجوزي) رحمه الله: سمعتُ الشيخ موفق الدين رحمه الله يقول: لبست أنا والحافظ عبد الغني الخِرْقة من يد شيخ الإِسلام عبد القادر في وقتٍ واحد، واشتغلنا عليه بالفِقْه، وسمعنا منه، وانتفعنا بصحبته، ولم ندرك من حياته غير خمسين ليلة" انتهى من "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" (21/108).
والإمام ابن قدامة رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة، وله رسالة بعنوان (ذم ما عليه مدّعو التصوف).
وسبط ابن الجوزي: ليس مظنة التحري والتوثيق، ولا ندري عن نقله، فالله أعلم بحقيقة الحال.
وأما الفقيه الإمام ابن مفلح تلميذ ابن تيمية رحمهما الله، صاحب الفروع فلم نقف على لبسه الخرقة حسب مصادر التراجم والتواريخ التي بين أيدينا، وهو على جادّة وسنن السلف، على طريقة شيخه ابن تيمية رحمهما الله. انظر: المسائل العقدية التي نقلها ابن مفلح في الفروع عن شيخه ابن تيمية، رسالة: "آراء ابن مفلح العقدية".
وابن عبد الهادي المشار إليه بلبس الخرقة، ليس هو شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله (المتوفى: 744 هـ)، تلميذ ابن تيمية، صاحب المحرر وتنقيح التحقيق، والصارم المنكي وغيرها؛ فلم نقف من ذكر ذلك في حقه.
وإنما المشار إليه آخر، متأخر عنه بزمانه، وهو الشيخ جمال الدين يوسف بن بدر الدين حسن بن عبدالهادي الحنبلي رحمه الله، المعروف ب(ابن المبرد) ت 909 هجرية، فله كتاب (بدء العلقة بلبس الخرقة) وقال فيه (ص:47): "إن لبس الخرقة من الأفاضل المندوب إليه، رجاءَ التبرك والشمول باللحظ المستقيم"اهـ.
وجمال الدين يوسف بن عبد الهادي (ابن المبرد) رحمه الله، فقيه حنبلي معروف، كثير التصانيف للغاية، متنوع التآليف. وقد صنف في فضائل أهل الحديث والأثر، والانتصار لمسلكهم: (بغية الحثيث في فضل أهل الحديث). قال الكمال الغزي: "بقية السلف وقدوة الخلف" "النعت الأكمل": ص:68
ثانياً:
خرقة التصوف: هي خرقة تكون فوق جميع الملابس، والظاهر أنها كانت من صوف.
وتسمى كذلك: "لباس الفتوة"، و"المرقعة" و"الدلق"، ويكون من قطعة واحدة أو مرقعًا، ويسمَّى "بالدلق المرقع"، وإذا كان من ألوان مختلفة يسمى "الدلق الملمع".
والدلق: يسمى دائمًا: "الدلق الأزرق" مهما تغير لونه". تاريخ التصوف في الإسلام نقلاً من "التصوُّف - المنشأ والمصادر" إحسان إلهي ظهير ( ص:83).
وقد كره الأوائل واستنكروا التعبد بلبس الصوف؛ كابن سيرين وأَبُو العالية والثوري وابن المبارك والداراني وبشر بن الحارث وغيرهم رحمهم الله. انظر: "تلبيس إبليس" (ص: 176)، "مجموع الفتاوى" (11/7).
ويرى بعضهم: أن الخرقة الصوفية ليس شيئاً مادياً، وإنما هي الإسناد الصوفي المتسلسل إلى رسول الله ﷺ.
ثالثاً:
سند الخرقة: يكاد يُجمِع أهل الطرق من مشايخ الطائفة على رواية لبس "الخرقة" بالسند مسلسلاً إلى عليٍّ رضي الله عنه.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي ; فإن الجنيد صحب السري السقطي، والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب.
وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع، فتارة يقولون: إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا، وهذا باطل قطعا، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل، كأبي نعيم، وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف. ومعروف كان منقطعا في الكرخ، ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى، ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به، أو أخذ عنه شيئا، بل ولا يعرف أنه رآه، ولا كان معروف بوابه، ولا أسلم على يديه، وهذا كله كذب.
وأما الإسناد الآخر فيقولون: إن معروفا صحب داود الطائي، وهذا أيضا لا أصل له، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها. وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي، وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة ... وفيها أن حبيباً العجمي صحب الحسن البصري، وهذا صحيح.. وفيها أن الحسن صحب علياً، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة "اهـ. منهاج السنة (8/44).
قال ابن الجوزي: (وقد قرروا أن هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ، وجعلوا لها إسناداً متصلاً كله كذب ومحال، وَقَدْ ذكر مُحَمَّد بْن طاهر فِي كتابه فَقَالَ: "باب السنة فِي لبس الخرقة من يد الشيخ"، فجعل هذا من السنة، واحتج بحديث أم خالد أن النبي ﷺ أتى بثياب فيها خميصة سوداء فقال من ترون أكسو هذه فسكت القوم، فقال رسول الله ﷺ: "ائتوني بأم خالد: قالت فأتى بي فألبسنيها بيده وقال: "أبلى وأخلقي".
وإنما ألبسها رسول الله ﷺ لكونها صبية، وكان أبوها خالد بن سعيد بن العاص وأمها همينة بنت خلف قد هاجروا إلى أرض الحبشة،، فولدت لهما هناك أم خالد وأسمها أمة، ثم قدموا فأكرمها رسول الله ﷺ لصغر سنها، وكما اتفق فلا يصير هذا سنة وما كان من عادة رسول الله ﷺ إلباس الناس ولا فعل هذا أحد من أصحابه ولا تابعيهم.
ثم ليس من السنة عند الصوفية أن يلبس الصغير دون الكبير، ولا أن تكون الخرقة سوداء، بل مرقعة أو فوطة. فهلا جعلوا السنة لبس الخرق السود كما جاء في حديث أم خالد، وذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال: باب السنة فيما شرط الشيخ على المريد في لبس المرقعة، واحتج بحديث عبادة "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر". فانظر إلى هذا الفقه الدقيق وأين اشتراط الشيخ على المريد من اشتراط رسول الله ﷺ الواجب الطاعة على البيعة الإسلامية اللازمة) اهـ. تلبيس إبليس (ص: 171).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وقد استدل بعضهم بأن النبي ﷺ ألبس أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ثوبًا وقال لها: "سنا"، والسنا بلسان الحبشة: الحسن، وكانت قد ولدت بأرض الحبشة؛ فلهذا خاطبها بذلك اللسان، واستدلوا أيضًا بحديث "البردة التي نسجتها امرأة للنبي ﷺ، فسأله إياها بعض الصحابة، فأعطاه إياها، وقال: أردت أن تكون كفنًا لي"، وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه؛ فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه، وأخذ ثوب من النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة، وليس هذا كلباس ثوب أو قَلَنْسُوة على وجه المتابعة والاقتداء، ولكن يشبه من بعض الوجوه خِلَع الملوك التي يخلعونها على مَن يولونه، كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة؛ ولهذا يسمونها تشريفًا"اهـ. مجموع الفتاوى (11/510).
وقال: "ما ذكر من إلباس لباس الفتوة والسراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء: فهذا باطل، لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله ﷺ، ولا أحد من أصحابه؛ لا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين لهم بإحسان.
والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة: فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف. ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي ﷺ بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمراً من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه، فإن العالمين بسنته وأحواله: متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ..."اهـ. مجموعة الرسائل (1/148).
وقال الحافظ الذهبي: "وما بعد معروف (الكرخي) فمنقطع، زعموا أنه أخذ عن داود الطائي وصحب حبيبًا العجمي، وصحب الحسن البصري، وصحب عليًّا - رضي الله عنه" السير (16/266). وانظر: تضعيف الحافظ ابن حجر رحمه الله لطرقها فتوى (223566).
وقال السخاوي: "قال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل". المقاصد الحسنة (ص: 527).
قال الشوكاني: "باطل لا أَصْلَ لَهُ، قَالَ ابْنُ حجر: لم يرد في خبر صحيح. ولا حسن. ولا ضعيف .. وقد صرح بمثل ما ذكر ابن حجر جماعة من الحفاظ كالدمياطي، والذهبي، وابن حبان، والعلائي، والعراقي، وابن ناصر"اهـ الفوائد المجموعة (ص: 253)
وكذا إسناد الخرقة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "لبس عمر للخرقة وإلباسه ولبس رسول الله ﷺ للخرقة وإلباسه: يعرف كل من له أدنى معرفة أنه كذب"اهـ. مجموع الفتاوى (11/104).
وقال: "ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر، وهو منقطع جداً. منهاج السنة (8/47).
رابعاً:
ماذا يُعتقد في لبس الخرقة؟
قال ابن المبرد (ابن عبد الهادي) رحمه الله في بدء العلقة بلبس الخرقة (ص:47): "وصنف ابن ناصر الدين كتاباً سماه إطفاء حرقة الحوبة بإلباس خرقة التوبة، وذكر فيه أن كثيراً من الناس لبسوا الخرقة لأغراض صالحة، منها: الابتعاد عن المعاصي والمساوئ، ومنها لعلاج القلوب والتداوي، ومنها الاتباع والسلوك، ومنها للتشرف بها كخلع الملوك، ومنها التبرك بأيدي الصالحين والزهاد، ومنها حرصاً على اتصالها إلى من أخذت عنه أولاً بالإسناد"اهـ.
خامساً:
حكم لبس خرقة التصوف:
من اعتقد أن لبس الخرقة سنة: فقد جاء بفعل محدث غير مشروع، ولم يُعرف عند المتقدمين؛ لأن خرقة التصوف عبارة عن لبس خرقة للتعبد وهذا يفتقر إلى دليل.
وأما ما يقترنها من نية صالحة أو عهد بما أمر الله به: فهذا أمر إضافي يوزن بالكتاب والسنة؛ فما كان في الكتاب والسنة حسن فهو حسن وإلا فلا. وأما التبرك بذات الصالحين، فلا يجوز التبرك بذاتٍ غير ذات النبي ﷺ. انظر: فتوى (10083).
وقد تقدم قول ابن تيمية رحمه الله: "باطل لا أصل له"اهـ. مجموعة الرسائل والمسائل (1/148).
وقال: "فلزوم زِيّ معِين من اللبَاس سَوَاء كَانَ مُبَاحا أَو كَانَ مِمَّا يُقَال إِنَّه مَكْرُوه، بِحَيْثُ يَجْعَل ذَلِك ديناً ومستحباً وشعاراً لأهل الدّين هُوَ من الْبدع، فَكَمَا أَنه لَا حرَام إِلَّا مَا حرمه الله فَلَا دين إِلَّا مَا شَرعه الله"اهـ الاستقامة (1/ 260).
وقال: "وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يُلبسون مريديهم خرقة، ولا يقصون شعورهم، ولا التابعون". وقال: "وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشايخ المريدين: فهذه ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة ولا كان المشايخ المتقدمون يلبسونها المريدين. ولكن طائفة من "مشايخ المشرق من" المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه ...
هذا ونحوه غايته أن يجعل من جنس المباحات.
فإن اقترن به نية صالحة كان حسناً من هذه الجهة.
وأما جعل ذلك سنة وطريقاً إلى الله سبحانه وتعالى، فليس الأمر كذلك" اهـ. مجموع الفتاوى (11/510)، منهاج السنة النبوية (8/47).
وقال: "والشروط التي تشترطها شيوخ " الفتوة " ما كان منها مما أمر الله به ورسوله، كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض واجتناب المحارم، ونصر المظلوم وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد. أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم، واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله، وأن يجتمعوا على السنة ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة. ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم، سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها.
وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله: مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية؛ أن كلاً منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه، سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله. وفي السنن عنه أنه قال: (المسلمون عند شروطهم: إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)"اهـ. مجموع الفتاوى (3/342 - 343).
أما إذا وصل الحال إلى المنكرات كما هو حال بعض من انتسب إلى التصوف، فلا يختلف في تحريمه اثنان؛ "قال ابن عقيل: وأنا أذم الصوفية لوجوه يوجب الشرع ذم فعلها منها:.. أنهم استمالوا النسوة والمردان، بتصنع الصور واللباس؛ فما دخلوا بيتاً فيه نسوة، فخرجوا، إلا عن فساد قلوب النسوة على أزواجهن... ويستصحبون المردان في السماعات.. ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة إلباسهن الخرقة ..
(ثم يقال): الشيخ لا يعترض عليه.. فإن قبّل أمرد، قيل: رحمة، وإن خلا بأجنبية قيل: بنته، وقد لَبِست الخرقة" تلبيس إبليس (ص: 328).
سادسًا:
الصوفية لفظ مجمل يدخل فيه العباد والزهاد، ويدخل فيه بعض أهل الخرافات، ودخل فيه الملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود. انظر: الرد علي الشاذلي في حزبيه لابن تيمية (1/ 74). وانظر: فتوى (223566).
والصوفية يختلفون بحسب قربهم من الكتاب والسنة، فينبغي أن يفرّق بين مدح زاهد صوفي معين وبين مدح طائفة الصوفية عموماً. انظر: الصفدية (1/ 267)، مقدمة أبي نعيم في حلية الأولياء (2/25). فتوى (217491).
سابعاً:
موقفنا من العلماء الذين لبسوا خرقة التصوف:
لا تلازم بين الخرقة والخرافات والبدع:
أ- من العلماء من كان يرى مشروعية لبس الخرقة، وأن فيها خيراً وبركة، ولم يُعرف بخرافات الصوفية وبدعهم، وهو من أهل السنة. مثل ابن المبرد (ابن عبد الهادي).
ب- ومن العلماء من لا يرى لبس الخرقة لضعف أدلتها، كابن الجوزي وابن تيمية رحمهما الله، وإن كان قد لبسها من شيخه في بداية أمره، كابن تيمية رحمه الله؛ حيث قال: "وقد كتبت أسانيد الخرقة; لأنه كان لنا فيها أسانيد، فبينتها ليعرف الحق من الباطل". منهاج السنة (8/47).
وقال ابن المبرد رحمه الله في العلقة (ص:47): "وصنف ابن ناصر الدين كتاباً سماه إطفاء حرقة الحوبة بإلباس خرقة التوبة... قال: "وأحد طرق الإسناد التي بها نقلت، وإلينا ولله الحمد وصلت، الطريقة التي أشار إليها بقية الأعلام وأحد مشايخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، قال-ابن تيمية-: وقد كنت لبست خرقة التصوف من طرف جماعة من الشيوخ"اهـ.
ج- كثير من الصوفية لم يلبسوا الخرقة، وكثير من أهل السنة من علماء الحديث كانوا يلبسونها، فلا تلازم بين الخرقة والتصوف المبتدع المنحرف، ولا التصوف باعتباره مسلكا عاما.
د- هناك بعض العلماء لبسوها مع أنهم يرون ضعف الحديث فيها، ولكن لما لاحظوا أن العديد من العلماء الذين سبقوهم قد ارتدوا الخرقة، ترسّخ في أذهانهم أن هذا الأمر مقبول وحسن، كما تقدّم عن الذهبي أنه حكم على السند بالانقطاع، وقال: "وقد لبست الخِرْقَةَ بالقاهرة من الشَّيْخ ضياء الدّين عيسى بْن يحيى الأَنْصَارِيّ السَّبْتيِّ وقال: ألبسنيها الشيخُ شِهابُ الدّين بمكة فِي سنة سبعٍ وعشرين وستمائة". تاريخ الإسلام ت بشار (14/ 81)، وانظر: معجم الشيوخ الكبير للذهبي (2/87).
وللحافظ الذهبي نماذج في إنكاره على بعض ممارسات الصوفية. انظر: (537449).
وأخيراً:
مع قولنا بأن لبس الخرقة لا أصل لها، فمن عُرف بعلمه وسلامة معتقده، واتباعه لسلف الأمة، وكان له حظ منها، فلا يخرجه هذا من دائرة أهل السنة والجماعة، لا سيما ممن عُرفوا بالإمامة في الدين؛ لأن تحقيق المسألة المعينة، وكونها لم تصح ولا أصل لها: من المسائل التي قد تخفى بسبب اختلاف مسالك التحقيق، والفهوم، وبسبب تتابع بعض أهل العلم على لبسها، فبمثلها يُعذر المخالف في عمله، والمتأول في تأويله.
ثم إن إخراج الرجل من دائرة أهل السنة لها شروط ذكرها أهل العلم متناثرة، منها:
أن تكون البدعة في أصل كلي، وليست في فرع وجزئية واحدة. [الفتاوى (12/485-486)، الاعتصام للشاطبي(3/139)].
ومنها: أن تكون المسألة مجمعا عليها. مجموع الفتاوى(20/207).
وألا تكون صادرة عن تأويلِ .شرح الأربعين لابن عثيمين (ص:287).
وانظر: فتوى (287015)، (93211).
قال الإمام الذهبي –رحمه الله- : "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" سير أعلام النبلاء (14/40).
وقال: "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقَلّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه"اهـ. في سير أعلام النبلاء (14/ 376).
والله أعلم