وجدت أن الرأي المختار عندكم أن السائق إذا دهس إنسانا من غير قصد لا كفارة عليه، ووجدت أن الفقهاء قديما قالوا: لو أن أما انقلبت على ابنها الرضيع وهي نائمة فقتلته من غير قصد عليها الكفارة، فما توجيه ذلك؟
أولاً:
ما ذكرت في سؤالك من أننا سبق أن ذكرنا (أن السائق إذا دهس إنسانا من غير قصد لا كفارة عليه) فلم نذكر هذا على إطلاقه، وإنما هو في حالة تمحض الخطأ من المتضرر، وعدم (الفعل) الموجب للتضمين من السائق؛ وإنّما وقع الأمر نتيجة لقوة قاهرة، لا يستطيع دفعها. وتعذر عليه الاحتراز منها، أو كان بسبب فعل المتضرر، كان له أثر كبير في الحادث.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي:
بشأن حوادث السير ….
2- الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات: تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ.
والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أو المال، إذا تحققت عناصرها، من خطأ وضرر، ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها، وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر، المؤثر تأثيرا قويا في إحداث النتيجة.
ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه، فيتحمل ذلك الغير المسؤولية ” انتهى. “مجلة مجمع الفقه الإسلامي” (العدد 8/ج2/371-372). انتهى.
أما إذا حصل الدهس بفعله هو، وإن كان خطأ لم يتعمده: فقد ذكرنا أنّ عليه الكفارة ، والدية على عاقلته. انظري الفتوى: (269759).
ثانياً:
أما مسألة (أنّ الأم إذا انقلبت على ابنها الرضيع وهي نائمة فقتلته من غير قصد عليها الكفارة).
فالفرق بين المسألتين ظاهر: فإن هذا السائق، بالقيود التي سبق ذكرها: لم يقع منه “فعل” يوجب الضمان، وإنما الحادث كان أثرا لفعل “غيره”، لا لفعله هو المباشر.
وأما مسالة الأم التي انقلبت على ابنها الرضيع؛ فعليها دية الخطأ؛ لأن القتل نتج عن “فعلها” هي، وهو انقلابها على الرضيع؛ فهذا فعلها، ولم يكن فعل الرضيع، ولا فعل طرف ثالث. فهذا هو الفرق بين الصورتين.
وقد فرق الفقهاء في مسألة الضمان بين ما يمكن التحرز منه وما لا يمكن التحرز منه.
قال السرخسي رحمه الله:
“ولو نفحت الدابة برجلها، أو بذنبها، وهو يسير: فلا ضمان في ذلك على راكب ولا سائق ولا قائد.
والأصل: أن السير والسوق والقود في طريق العامة مأذون فيه، بشرط سلامة العاقبة؛ فما لم تسلم عاقبته؛ لم يكن مأذونا فيه، فالمتولد منه يكون مضمونا. إلا إذا كان مما لا يمكن الاحتراز عنه، بسد باب الاستطراق على العامة، ولا سبيل إليه.
والوطء والكدم والصدم والخبط في السير والسوق والقود: مما يمكن الاحتراز عنه بحفظ الدابة، وذود الناس.
والنفح مما لا يمكن التحرز عنه، وكذا البول والروث واللعاب، فسقط اعتباره، والتحق بالعدم” انتهى من “بدائع الصنائع” (7/ 272).
وجاء في “موسوعة القواعد الفقهية” (8/ 1077):
“لا يلزم ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه”.
ومعنى هذه القاعدة ومدلولها:
ضمان ما يُتلفه الإنسان باختياره أو خطئه: واجب، إذا كان يستطيع المتلف الامتناع عن الإتلاف، بأخذه الاحتياطات اللازمة، فقصّر فيها.
لكن ما لا يمكن التّحرّز عنه، وما ليس في وسع الإنسان الامتناع منه: فهو غير ضامن له، ولا إثم عليه في وقوعه.
ومن أمثلة ذلك: إذا كان راكباً دابّة فنفحت – أي رَفَست – برجلها أو بذنبها، فلا ضمان على الرّاكب؛ لأنّ وجه الرّاكب أمام الدّابة، لا خلفها. والرّاكب ليس في وسعه التّحرّز عن ذلك.
ومنها: إذا كان راكباً سيّارة، فضربت بعجلها وهي تسير حصاة في الطّريق، أو نواة، فأصابت إنساناً، ففقأت عينه: فلا ضمان على سائق السّيّارة؛ لأنّ هذا لا يمكن التّحرّز منه” انتهى.
فهذا هو وجه التفريق بين المسألتين.
والله أعلم.