0 / 0

بيان معاني خطبة الحاجة والدروس المستفادة منها

السؤال: 542634

ما هي المعاني المستفادة من خطبة الحاجة الواردة في السّنّة النّبويّة الشّريفة؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

خطبة الحاجة الواردة في السنة النبوية الصحيحة من مجموع الروايات كما بينه الشيخ الألباني رحمه الله في كتابة "خطبة الحاجة".

 هي: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أما بعد: ثم يذكر حاجته"

"من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة"

وفي هذه الخطبة معان عظيمة، وفوائد إيمانية وتربوية جليلة، ويكفي لنعلم جلال قدرها، وعظيم ما فيها من الألفاظ والمعاني؛ أن بعض الوافدين العقلاء على النبي صلى الله عليه وسلم: أسلم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمجرد سماعها.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ. فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ. قَالَ: فَلَقِيَهُ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ. وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ. فَهَلْ لَكَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ ‌الْحَمْدَ ‌لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ ).

قَالَ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ.

فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ؛ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ. وَلَقَدْ بَلَغْنَ ‌نَاعُوسَ ‌الْبَحْرِ.

قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ فَبَايَعَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَى قَوْمِكَ؟

قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي.

قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ. فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً. فَقَالَ: (رُدُّوهَا. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ) رواه مسلم في صحيحه (868).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

"ولهذا استحبت وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس ومجادلتهم: أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية … ؛ فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة، في مخاطبة العباد بعضهم بعضا، والنكاح من جملة ذلك.

فإن مراعاة السنن الشرعية، في الأقوال والأعمال، في جميع العبادات والعادات: ‌هو ‌كمال ‌الصراط ‌المستقيم، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه، فإنه منقوص مرجوح؛ إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (18/287-288).

ثانيا:

هذه الخطبة العظيمة : قد شرحها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله شرحا وافيا، آثرنا أن ننقله بنصه لما تضمنه شرحه رحمه الله من الفوائد النفيسة علمياً وإيمانيا وتربوياً.

وهذا نص شرحه رحمه الله:

"خطبة الحاجة التي علمها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه أن يبتدئوا بها كل أمر ذي اهتمام .

قوله: (الحمد): معنى الحمد : وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لا بد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال؛ لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً. ومن ثمَّ نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الأمراء مدحاً عظيماً بالغاً، لكنك لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خالٍ من محبة هذا الأمير، ولكنه يمدحه؛ إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.

أما حمدنا لله عز وجل فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ إن محبة الله تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، ويجب علينا أن تكون محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوق محبة أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأولادنا؛ لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو أعظم الناس حقاً علينا، به هدانا الله، وبه أرشدنا، وبه دلنا على كل خير، وبه بين لنا كل شر، وبه نقتدي على منهاج ربنا عز وجل الموصل إلى دار كرامته ورضوانه، فلهذا من لم يكن قلبه مملوءاً من محبة الله ورسوله، ومن لم يكن مقدماً لمحبة الله ورسوله على من سواهما، فليعلم أن في قلبه مرضاً، وليحرص على أن يصحح هذا المرض، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) .

إذاً الحمد: هو وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم والإجلال، هذا هو الحمد. إذا كررت هذا الوصف سمي ثناءً. وعليه؛ فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال.

ويدل على هذا الفرق: ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي) تصور يا أخي! يناجيك الله عز وجل وأنت في صلاتك، يسمعك من فوق سبع سماوات، ويرد عليك، (إذا قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قلت: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قلت: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي) والتمجيد: التعظيم، فهل نشعر ونحن نصلي بهذا؟!!

الشكوى لله عز وجل، أكثرنا وأكثر أوقاتنا أننا لا نشعر بهذا، نقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها، لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة أننا نناجي الله سبحانه تعالى، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يقول الله عز وجل من فوق سماواته: حمدني عبدي!! من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة، ويجد أن قلبه استنار بها، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به.

قوله: (الحمد لله نحمده) جملة: (نحمده) جملة فعلية، (والحمد لله) جملة اسمية، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الاسمية، لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون بحمد الله عز وجل

‌‌معنى (ونستعينه):

قوله: (ونستعينه) أي: نطلب منه العون، على أي شيء؟ على كل شيء، وأول وأولى ما يدخل في ذلك ما نحن فيه، تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] على كل شيء. ومنها: أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا.

وعندما تتكلم بهذه الخطبة، فإنك تستعين الله تعالى على هذه الخطبة التي ستقولها وتسأله العون، وفي الحديث: (ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله) استعن بالله في كل شيء، إذا أردت أن تُقضى حاجتك فاستعن بالله في كل شيء، لا تحقرن شيئاً، حتى عند الوضوء عند الخروج إلى المسجد عند أي عمل اجعل قرينك الاستعانة بالله عز وجل.

‌‌معنى (ونستغفره):

قوله: (نستغفره) أي: نسأله المغفرة، والمغفرة: هي ستر الذنب مع التجاوز عنه.

هذه المغفرة، أن يستر الله عن عباده ذنبك وأن يعفو عنك هذا الذنب، ومعلوم أن الإنسان له ذنوب بينه وبين الله، ذنوب خفية في القلب، وذنوب خفية في الجوارح، لكن لا يعلم بها الناس، أرأيتم لو أن الله كشفها لكانت محنة، ولكن بحمد الله عز وجل أنه سترها عن العباد، فأنت تسأل الله أن يغفر لك، أي: أن يستر عليك الذنوب وأن يتجاوز عنك، فانتبه لهذا المعنى، أنت عندما تقول: أستغفر الله.

تسأل الله شيئين هما: الأول: ستر الذنب، والثاني: التجاوز عنه بحيث لا يعاقبك الله عليه، ولهذا إذا كان يوم القيامة فإن الله تعالى يخلو بعبده المؤمن ويقول: (فعلت كذا فعلت كذا حتى يقر، ثم يقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) اللهم اغفر لنا.

نجد أن في كتب العلماء الذين يبدؤون بهذه الخطبة (نستغفره ونتوب إليه) ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث: (ونتوب إليه) بل (نستغفره) وبعدها (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)

معنى (نعوذ بالله من شرور أنفسنا):

قوله: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي: نعتصم بالله من شرور أنفسنا، وسؤالنا الآن: هل في النفس شر؟

 ‌‌الجواب: نعم. في النفس شر، قال الله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].

والنفوس ثلاث: نفس شريرة: وهي الأمارة بالسوء، ونفس خيرة: وهي المطمئنة تأمر بالخير، ونفس لوامة، وكلها مذكورة في القرآن: النفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] .

والنفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28-30] .

النفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2]، فهل النفس اللوامة غير النفسين: الخيرة والسيئة، أو هي النفسان؟

من العلماء من يقول: إنها نفس ثالثة، ومنهم من يقول: بل هي وصف للنفسين السابقتين.

فمثلاً: النفس الخيرة تلومك متى؟ إذا عملت سوءاً أو فرطت في واجب تلومك.

النفس الشريرة تلومك متى؟ إذا فعلت خيراً، أو تجنبت محرماً، لامتك: كيف تحجر على نفسك؟ لماذا لم تتحرر؟ لماذا لا تفعل كل ما تريد؟ تقولها النفس الأمارة بالسوء.

أما النفس الخيرة فتلومك عند فعل الشر وترك الخير، والنفس الأمارة بالعكس.

وأياً كان الأمر سواء كانت نفساً ثالثة، أو هي وصف للنفسين: الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن للنفس الشريرة علامة، ما علامتها؟ علامتها: أنها تأمرك بالشر تأمرك بالكذب بالغيبة بالغش بالسرقة بالزنا بشرب الخمر، أي نفس هذه؟ الشريرة التي تأمر بالسوء.

النفس الخيرة بالعكس، تأمرك: بالخير بالصلاة بالذكر بقراءة القرآن بالصدقة بغير ذلك مما يقربك إلى الله، ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه، ولهذا نحن نقول: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا) فأنفسنا فيها شر، إذا لم يعصمك الله عز وجل من شر نفسك هلكت {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]

‌‌معنى (ومن سيئات أعمالنا):

قوله: (ومن سيئات أعمالنا) الأعمال السيئة لها آثار سيئة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، والسيئة تجلب السيئة، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى قهراً، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر.

أي: إذا هانت المعاصي في نفسك هانت الصغيرة ثم هانت الكبيرة ثم هان الكفر في نفسك، فكفرت والعياذ بالله، ولهذا يجب على الإنسان من حين أن يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها، وأن يلجأ إلى الله عز وجل بالإنابة والتوبة حتى تمحى آثارها، وحتى لا يختم على القلب، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .

نسأل الله أن يصلح لنا ولكم العلانية والسريرة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" انتهى. "اللقاء الشهري" (22/ 2 بترقيم الشاملة آليا).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "وأما قوله: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا} فإن المستعاذ منه نوعان: فنوع موجود يستعاذ من ضرره الذي لم يوجد بعد ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر مثال الأول: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ومثل الثاني: {رب أعوذ بك من همزات الشياطين} {وأعوذ بك رب أن يحضرون} و {اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل} . وأما قوله: {قل أعوذ برب الفلق} {من شر ما خلق} {ومن شر غاسق إذا وقب} {ومن شر النفاثات في العقد} {ومن شر حاسد إذا حسد} فيشترك فيه النوعان فإنه يستعاذ من الشر الموجود أن لا يضر ويستعاذ من الشر الضار المفقود أن لا يوجد فقوله في الحديث: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} يحتمل القسمين: يحتمل نعوذ بالله أن يكون منها شر ونعوذ بالله أن يصيبنا شرها وهذا أشبه والله أعلم.

وقوله: " ومن سيئات أعمالنا " السيئات هي عقوبات الأعمال كقوله: {سيئات ما مكروا}: فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي.

وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره. وعلى الأول، وهو أشبه: فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه؛ وهذا أشبه.

فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي. فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب.

وعلى هذا فيكون قد استعاذ من الضرر المفقود الذي انعقد سببه؛ أن لا يكون. فإن النفس مقتضية للشر، والأعمال مقتضية للعقوبة، فاستعاذ أن يكون شر نفسه، أو أن تكون عقوبة عمله.

وقد يقال: بل الشر هو الصفة القائمة بالنفس الموجبة للذنوب، وتلك موجودة كوجود الشيطان، فاستعاذ منها أن تضره أو تصيبه، كما يقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وإن حمل على الشرور الواقعة، وهي الذنوب من النفس: فهذا قسم ثالث". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (18/287-289).

وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:

«من يهده الله فلا مضل له» يعني: من يُقدر هدايته ومن يهده بالفعل فلا مضل له، فإذا أراد الله هداية شخص، فإن الناس لا يستطيعون أن يضلوه أبدًا.

مثاله: رجل منحرف؛ ما من معصية تُذكر إلا ذهب إليها وباشرها، فصار فيه فتح من الله، أراد أن يتجه للخير، فجاءه قرناء السوء يقولون: لماذا تخرج عما أنت فيه؟ لماذا تميل إلى كذا؟ هؤلاء لا يستطيعون، إذا كان الله قد أراد هدايته، لا يستطيعون أن يصدوه أو يمنعوه أبدًا مهما حاولوا لأن الله قدّر هدايته، كذلك الإنسان الذي قد اهتدى بالفعل، وقد أراد الله أن يستمر على ما هُوَ عليه لا يستطيع أحد أن يهديه. إذن من يهده الله تقديرا وفعلاً فإنه لا أحد يضله فلا مضل له.

«ومن يضلل فلا هادي له»، كذلك من يضلل تقديرًا أو فعلاً، فلا هادي له.

وأكبر مثل على ذلك أبو طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي صار منه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إحسانا بالغًا مدافعة عظيمة ومع هذا لم يتمكن النبي (صلى الله عليه وسلم) من هدايته حَتَّى في آخر لحظة قال له: «قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله». ولكنه حيل بينه وبينها -والعياذ بالله- لأن الله لم يرد هدايته، والذي يُضله الله لا هادي له.

فإذا قال قائل: هاتان الجملتان قد يكون فيهما تأييس من دعوة الضالين إلى الهداية؛ لأن الإنسان قد يقول: إن الله قد أراد إضلال هؤلاء فكيف أحاول أن أهديهم؟

قلنا: هذا الظن، أي: أن يظن الإنسان أن هذا مدلول الكلام خطأ، بل المعنى: أنك إذا أردت الهداية، فلا تطلبها إلا من الله، وأنك إذا فعلت ما أمرت به من الدعوة إلى الخير، ولكن المدعو لم ينتفع: فحينئذ تُفوض الأمر إلى الله، وتقول: لو أراد الله هدايته لاهتدى، «فمن يضلل فلا هادي له»، وكذلك: «من يهده الله فلا مُضَلِّ له». المقصود: أن نعتصم بالله -سبحانه وَتَعَالَى-، حتى لا يضلك أحد. "فتح ذي الجلال" (4/441) .

"فإن خير الحديث كتاب الله" وقوله: "فإن خير الحديث" هذه جواب الشرط، "خير" هنا اسم تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال؛ يعني: أخير الحديث كتاب الله، وهو القرآن، فهو خير الأحاديث في الأخبار وفي الأحكام، لأنه مشتمل على غاية الصدق في الأخبار وعلى غاية العدل في الأحكام، كما أنه خير الحديث أيضًا فصاحة وبلاغة وأسلوبًا، فلا يوجد له نظير، كما أنه خير الحديث في إصلاح القلوب، يقول ابن عبد القوي رحمه الله:

وحافظ على درس القران فإنَّه … يليِّن قلبًا قاسيًا مثل جلمد؛ فلا حديث أشد إصلاحًا للقلوب من كلام الله عز وجل.

وهو أيضًا خير الحديث في إصلاح المعاش معاش الخلق، لذلك لما كانت الأمة قائمة به كانت أسعد الأمم، وهو خير الحديث أيضًا في إصلاح المعاد، يقول تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} [طه 123]. لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124].

هو أيضًا خير الحديث في قوة تأثيره، ولهذا قال الله عز وجل: {وجهادهم به جهادًا كبيرًا} [الفرقان]. وماذا أثر في البلغاء والفصحاء من قريش؟ اعترفوا فيما بينهم سرًّا بأنه ليس من كلام البشر، حتى إن بعضهم ما ملك نفسه أن يسلم حين سمع القرآن، فهو خير الكلام من كل ناحية: في لفظه ومعناه وتأثيره وعاقبته، وإصلاحه للخلق في الأعمال والقلوب والأحوال، فخير الحديث كتاب الله المكتوب، وسبّق لنا أنه- أي: القرآن- مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، {فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة} [عبس: 12 – 15]. مكتوب في المصاحف التي بأيدينا كما هو ظاهر.

"وخير الهدي هدي محمد" ما هو الهدي؟ الهدي: الطريق والسُّنة والعمل، فيشمل الأخلاق والعبادة والمعاملة، فخير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- حتى من هدي الأنبياء السابقين؟ نعم، حتى من هدي الأنبياء السابقين، فإن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولهذا قال الله تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} [القصص: 49]. أي: تحدى ما يوجد أهدى من القرآن والتوراة التي قالوا: إنها صحف، وهنا: "خير الهدي هدي محمد" يشمل هدي من دون الأنبياء. ما رأيكم في هدي الصوفية والتيجانية والقاديانية، وما أشبهها؟ أهدى من هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- أم لا؟ لا، إذن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولهذا أعقبه بقوله: "وشر الأمور محدثاتها" "شر الأمور" الأمور المتعلقة بالدين والعبادة شرها محدثاتها، أما ما يتعلق بالدينا فإن من المحدثات ما هو خير وخير مما قبله أيضًا، لكن المقصود هنا: ما يتعلق بأمور الدين، الحديث يتكلم عن ماذا؟ عن خير الهدي، فشر الأمور مما يعتبر هديًّا ودينًا وعبادة، "محدثاتها" اسم مفعول يعني: التي أحدثت في دين الله هي شر الأمور.

لو قال لي قائل: أنا أريد الخير، أنا إذا فعلت هذا أجد في قلبي رقة ولينًا وخشوعًا، لماذا تمنعوني؟ ماذا نقول؟

نقول: هذا ليس بخير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول: "شر الأمور"، و"شر" اسم تفضيل يعني: أشر الأمور ما أحدث في دين الله حتى لو تراءى لفاعله أنه خير فهذا من تزيين الشيطان له، وإلا فليس بخير مهما كان، لو قالوا: والله نحن اجتمعنا وخشعنا وبكينا وذكرنا الله عز وجل، وذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، نقول: هذا شر لا شك نحن نؤمن بهذا هذا القبس الذي تجدونه ينقدح عند هذا الذكر هو ينطفئ ويعقبه ظلمة وحرارة؛ لأنه يُفسد القلب، البدع مهما كانت فإنها تُفسد القلوب؛ لأنها- بإذن الله- يحدث بها رد فعل بالنسبة للسنن، ولهذا قال بعض السلف: "ما أحدث قوم بدعة إلا وتركوا من السنة ما هو خير منها"، وهذا صحيح، فالقلب إذا اشتغل بالباطل ما بقي للحق فيه محل، كما أنه إذا انشغل بالحق ما بقي فيه للباطل محل.

"شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" بدعة في ماذا؟ في الدين، والبدعة ما تعبد به الله عز وجل عقيدة أو قولًا أو عملًا أو فعلًا، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان على عهده فليس ببدعة، وقوله: "ضلالة" الضلالة ضد الهدي فهي ميل وخروج عن الصراط المستقيم وضلال" انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" (2/ 332).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android