“عندما قال يعقوب عليه السلام: ﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ﴾ فقد يوسف عليه السلام وفقد عيناه، وعندما قال: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ﴾ عاد له يوسف عليه السلام وعادت عيناه، اللهم إني فوضت أمري إليك”، فيجب ألا نقول أخاف أن يحصل كذا “، قرأت الكلام السابق، وكنت أود السؤال عن صحته، ورأيكم فيه.
أولا:
قولهم (البلاءُ موكَّلٌ بالمنطق)، معناه: أنّ بعض الناس قد يتكلم بالكلمة، فيقع الأمر وفق ما نطق وتكلم به، وهذا يقع ويشهد له كثير من النصوص الشرعية، والوقائع والحوادث في القديم والحديث، ولكن ليس هذا حتما بأنّ كل من قال كلمة موحية بوقوع شيء وقع عليه، والواقع خير شاهد.
وهذه العبارة ليست آيةً قرآنية ولا حديثاً نبوياً، وقد روي حديثاً مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح، وإنما هو أثرٌ واردٌ عن بعض الصحابة والتابعين، ومَثَلٌ سائر بين العرب من قديم الزمان.
قال ابن الجوزي: “(البلاءُ موكَّلٌ بالمنطق) حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”. انتهى من “الموضوعات” (3/83).
وعن عبد الله بن مسعود قال: ( الْبَلاَءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ ). روا ابن أبي شيبة في مصنفه (27200)، وصحح إسناده موقوفاً الألباني في “السلسلة الضعيفة “(7/395).
وروي معناه عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (لَا تَسْتَشْرِفُوا الْبَلِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا مُولَعَةٌ بِمَنْ تَشَرَّفَ لَهَا، إِنَّ الْبَلَاءَ مُولَعٌ بِالْكَلِمِ). رواه الخرائطي في “مكارم الأخلاق” (408).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: “وفي بعض الآثار: البلاء موكل بالقول، وهو مع هذا من أمثالهم السائرة.” انتهى من “الأمثال” (ص: 74).
وقد سبق في الموقع بيان ثبوته ومعناه فيرجع إليه: (302603)، (301651).
ومما يذكره العلماء في التحذير من الكلمة الموحية بالسوء: حديث ابن عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: (لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّه)، فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، كَيْمَا تُزِيرَهُ القُبُورَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (فَنَعَمْ إِذًا) رواه البخاري (5338).
ثانياً:
أما ما جاء في السؤال: من أنّ يعقوب عليه السلام عندما قال: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، فقدَ يوسف عليه السلام، والإشارة بذلك إلى مقولة: البلاء موكول بالمنطق؛ فهذا ذكره بعض الناس عند الكلام عن هذه الآية.
وممن ذكر ذلك:
النسفي في تفسيره حيث قال رحمه الله:
“وقال بعضُ الحكماء: قيل: البلاءُ موكَّلٌ بالمنطق، فكانَ بلاءُ يعقوبَ مِن ذلك، قال: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} فحزِنَ، وقال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فقالوا: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، وقال: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}، فجعلوا ذلك عذرًا لأنفسهم، فقالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا}” انتهى من “التيسير في التفسير” للنسفي (8/336).
وقال الرازي رحمه الله:
«قيل: إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم الحجة. وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق» انتهى من “تفسير الرازي” (18/ 426).
وقال القاسمي رحمه الله:
“ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم: (البلاء موكل بالمنطق) فإن يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: 13]، فابتلي من ناحية هذا القول.
وقال هاهنا ثانيا: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ؛ أي تغلبوا عليه، فابتلي أيضا بذلك، وأحيط بهم، وغُلبوا عليه” انتهى من “تفسير القاسمي” (6/ 197).
ولكنّ أئمة التفسير من المتقدمين كالطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي وأبن عطية لم يذكروا هذه الإشارة، ولم ينقلوا فيه عن السلف، أهل التأويل، من الصحابة والتابعين وتابعيهم في ذلك المعنى شيئا.
ولا يظهر لنا أن ذلك ملائم لمقام الأدب مع الأنبياء، أن نجعل ما جرى لنبي الله يعقوب عليه السلام، مثلا، ولم يجعله الله كذلك، ولا أخبر به، ولا عاتب نبيه على تقدم بقول، ولا ترك لما هو أحسن وأجمل من المنطق؛ لم يكن شيء من ذلك في القصة على طولها، وكثرة تفاصيلها، ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قاله الأئمة الأولون، كما ذكرنا؛ فلا حاجة بالمسلم إلى تكلف قوله، ومجاوزة حد الوارث المأثور، لا سيما وحق الأنبياء على المسلم من التعظيم والتوقير بالمحل الذي يدعو إلى تهيب إطلاق القول، والتريث في تلمس إشارة، أو ذكر مثل، ليس عندنا برهان لائح به.
وبحسب الداعي إلى الأدب والعظة: أن يذكر ما يقوله أهل الآداب أما إنه عندما قال: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ عاد له يوسف عليه السلام وعادت عيناه فلم نقف على من ذكره من أهل التفسير. ولا يظهر فيه وجه المناسبة بين عودة بصره وبين هذه العبارة.
وخلاصة القول أنّ وقوع البلاء بسبب المنطق-القول- ليست أمراً متحتما، ولكن ذلك قد يكون سببا من جملة الأسباب؛ أن يستفتح الإنسان بشر، فينزل به.
ولأجل ذلك نهينا عن الدعاء على النفس والأهل والولد، وأمرنا بحفظ ألسنتنا.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دعاء المسلم على نفسه ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ) . رواه مسلم ( 920 ) .
وروى مسلم – أيضاً – ( 3014 ) – من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ ) .
والحصيف من عوّد لسانه جميل القول، وطيب الكلام في أمره كله.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (85257)، ورقم: (249144).
والله أعلم.