نحن طلاب العلم في كلية علوم الطب نسأل عن حكم الشرع في نظركم للعمل في مستشفيات مختلطة يعالج فيه الطبيب النساء والرجال على السواء مع إمكانية تجنب الخلوة المحرمة ، وكل المستشفيات في بلدنا تعمل بهذا النظام ، فما يمكن تجنب المسلم العمل كطبيب في مستشفيات أخرى للرجال فقط لعدم وجودها أصلا في بلدنا ، وقد رأى بعضنا أن ترك عمل الطبيب المسلم بسبب هذا النظام السالف الذكر الذي ما يمكن رده فيه تعطيل لمصالح العباد ووقوع مفاسد أعظم من العمل في المستشفيات . وإننا في حرج شديد من أمرنا هذا ولم نجد جوابا مقنعا لهذا السؤال فعسى أن يهدينا الله للصواب على أيديكم .
حكم دراسة الطب والعمل في المستشفيات مع وجود الاختلاط
السؤال: 69859
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
نشكر لكم اهتمامكم وحرصكم على معرفة الحكم الشرعي في هذه المسألة التي عمت بها البلوى ، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل .
ثانيا :
لا يجوز للطبيب الرجل أن يعالج المرأة إلا عند تعذر وجود طبيبة مسلمة أو كافرة ، وقد صدر بهذا قرار من مجمع الفقه الإسلامي ونصه :
" الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة ، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة ، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم ، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم ، على أن يطّلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك وأن يغض الطرف قدر استطاعته ، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة.
ويوصي بما يلي :
أن تولي السلطات الصحية جُلَّ جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها ، وخاصة أمراض النساء والتوليد ، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية ، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء " انتهى نقلا عن "مجلة المجمع" (8/1/49) .
وهذا ما اعتمدناه في الإجابة عن الأسئلة الواردة بهذا الخصوص ، انظر مثلا جواب السؤال رقم (2152) ، ورقم (20460) .
ثالثا :
إذا ابتلي المسلمون في بلد ما ، بكون جميع المستشفيات مختلطة ، فهذا واقع استثنائي مؤلم ، يتعذر معه تطبيق الضوابط السابقة ؛ إذ لابد للنساء أو لجماعة كبيرة منهن من الذهاب إلى هذه المستشفيات ، وعرض أنفسهن على الأطباء الرجال ، ولا شك أن القول بمنع الأطباء الصالحين من العمل في هذه المستشفيات ، يعني أن يخلو المكان لغير الصالحين ، ممن لا يراقب الله تعالى في عمله ولا في نظره ولا في خلوته ، كما يعني حرمان هؤلاء الأطباء من فرص العمل ، أو تفريغ كليات الطب من أهل الدين والاستقامة ، ولاشك أن هذه مفاسد عظيمة ، تزيد على مفسدة اطلاع الرجل على عورة المرأة ، التي يباح كشفها للحاجة والضرورة .
فالذي يظهر لنا ـ والله أعلم ـ أنه لا حرج عليكم في العمل في هذه المستشفيات ، مع السعى الجاد في تغيير هذا الواقع ، بإنشاء العيادات والمستشفيات الخاصة ، غير المختلطة ، وبذل الجهود لإقناع المسئولين والتأثير عليهم لتخصيص بعض المستشفيات للنساء ، والالتزام بالضوابط الشرعية الممكنة من عدم الخلوة ، وقصر النظر على موضع الحاجة ، على ما هو مبين في جواب السؤال رقم (5693).
وجوابنا هذا مبني على أمرين :
الأول : ما هو مقرر عند أهل العلم من أن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنه ترتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .
والثاني : – وهو متفرع عن الأول – ما أفتى به بعض أهل العلم من جواز تولي الوظائف الممنوعة ؛ لتخفيف الشر ما أمكن ، ومن ذلك ما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن يتولى الولايات ، ويُلزم بأخذ المكوس المحرمة من الناس ، لكنه يجتهد في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه ، ويخفف من المكوس ما استطاع ، ولو ترك الولاية لحل محله من يزيد معه الظلم ، فأفتى رحمه الله بأنه يجوز له البقاء في ولايته ، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه ، إذا لم يشتغل بما هو أفضل منه ، وقال : " وقد يكون ذلك واجبا عليه إذا لم يقم به غيره قادرا عليه . فنشر العدل بحسب الإمكان ، ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية ، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه … " انتهى من "مجموع الفتاوى" (30/356- 360) .
ومعلوم أن أخذ المكوس محرم تحريما شديدا ، وهو من كبائر الذنوب ، لكن لما كان في تولي هذا المسلم الصالح تخفيف للشر ، والتقليل منه بحسب الإمكان ، جاز ذلك .
وقد علق الشيخ ابن عثيمين رحمه على كلام لشيخ الإسلام قريب من هذا بقوله : " والمصالح العامة يجب مراعاتها ، لو مثلا تركنا مسألة الطب ، وصار أهل الخير لا يتعلمون الطب ، قال : كيف أتعلم الطب وإلى جانبنا نساء ممرضات ومتعلمات ومطبقات لمعلومات؟ نقول : هل أنت إذا امتنعت عن هذا هل سيبقى الجو فارغا ؟ سيأتي أناس خبثاء يفسدون في الأرض بعد إصلاحها ، وأنت ربما إذا اجتمعت أنت والثاني والثالث والرابع ، ربما في يوم من الأيام يهدي الله ولاة الأمور ويجعلون النساء على حدة والرجال على حدة " انتهى من "شرح كتاب السياسة الشرعية" ص 149
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : نحن مجموعة أطباء نعمل في الرياض ، ويكون علينا مناوبات يكون فيها مرضى ذكور وإناث ، وأحيانا تشتكي المريضة وتكون الشكوى مثلا الصداع أو وجع في البطن ، ويقتضي العمل الطبي حتى يكون تاما أن يتم الفحص : يقتضي أخذ المعلومات عن سبب الصداع ، يقتضي أن يفحص البطن أو الرأس أو غيرها حتى لا يكون عليه مسئولية ، ولو لم يكن من فحص قد لا تتضرر المريضة كثيرا ، يعني هناك مجال للتهرب منها ، لكن حتى يقيم الحالة تقييما تاما يقتضي أن يفحص …
فأجاب :
"الواجب على إدارة المستشفى أن تلاحظ هذا وأن تجعل المناوبة بين الرجال والنساء حتى إذا احتاج النساء المرضى أن يُعالجن أو يفحصن أُرسل إليهن النساء ، فإذا لم تقم الإدارة بهذا الواجب عليها ولم تبال فأنتم لا حرج أن تفحصوا النساء ، لكن بشرط ألا يكون هناك خلوة أو شهوة ، وأيضا يكون هناك حاجة إلى الفحص ، فإن لم يكن حاجة وأمكن تأخير الفحص الدقيق إلى وقت تحضر فيه النساء فأخروه ، وإذا كان لا يمكن فهذه حاجة ولا بأس بها " انتهى من "لقاءات الباب المفتوح " (1/206) .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه سميع قريب مجيب .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة