0 / 0
147,49027/08/2006

هل مسائل الخلاف لا إنكار فيها ؟

السؤال: 70491

بعض الناس يقول : المسائل التي اختلف فيها العلماء لا ينكر فيها على من أخذ بقول واحد منهم ، ويذكرون قاعدة : "لا إنكار في مسائل الخلاف" فهل هذه القاعدة صحيحة ؟.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

هذه القاعدة التي يقولها بعض الناس : ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) غير صحيحة ، والصواب أن يقال : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) وبيان ذلك :

أن المسائل التي اختلف العلماء فيها نوعان :

الأول : مسائل ورد في بيان حكمها نص صريح من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة ، ولا معارض له ، أو نقل فيها إجماع ، ثم شذ بعض المتأخرين وخالف الإجماع ، أو دل على حكمها القياس الجلي الواضح . فهذه المسائل ينكر فيها على من خالف الدليل .

ولهذا النوع من المسائل أمثلة كثيرة ، منها :

1- إنكار صفات الله تعالى التي مدح بها نفسه ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم تحت مسمى : "التأويل" وهو في الحقيقة تحريف لنصوص الكتاب والسنة .

2- إنكار بعض الحقائق التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم مما سيحدث يوم القيامة كالميزان والصراط .

3- ما قاله بعض المعاصرين من جواز أخذ الفائدة على الأموال المودعة في البنوك ، مع أن هذا هو عين الربا الذي حرم الله ورسوله .

4- القول بجواز نكاح التحليل ، فإنه قول باطل مخالف للعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .

5- القول بإباحة سماع آلات الموسيقى والمعازف ، فإنه قول منكر ، دل على بطلانه كثير من الأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف ولذلك اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على تحريمها .

6- القول بأن الداخل إلى المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب يجلس ليستمع الخطبة ولا يصلي تحية المسجد .

7- القول بعدم استحباب رفع الأيدي في الصلاة مع تكبيرة الركوع والرفع منه والقيام إلى الركعة الثالثة .

8- القول بعدم استحباب صلاة الاستسقاء . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها جماعة مع أصحابه .

9- القول بعدم استحباب صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان .

فهذه المسائل وأمثالها مما وردت نصوص ببيان حكمها ينكر فيها على المخالف ، ولم يزل الصحابة ومن بعدهم من الأئمة ينكرون على من خالف دليلاً صحيحا، ولو كان مجتهداً .

النوع الثاني : مسائل لم يرد ببيان حكمها دليل صريح من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي .

أو ورد بحكمها دليل من السنة ، ولكنه مختلف في تصحيحه ، أو ليس صريحاً في بيان الحكم ، بل يكون محتملاً .

أو ورد فيها نصوص متعارضة في الظاهر .

فهذه المسائل تحتاج إلى نوع اجتهاد ونظر وتأمل لمعرفة حكمها ، ومن أمثلة هذا النوع :

1- الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا .

2- الخلاف في سماع الموتى لكلام الأحياء .

3- نقض الوضوء بمس الذكر ، أو مس المرأة ، أو أكل لحم الإبل .

4- القنوت في صلاة الفجر كل يوم .

5- القنوت في صلاة الوتر ، هل يكون قبل الركوع أم بعده ؟

فهذه المسائل وأمثالها مما لم ترد نصوص صريحة ببيان حكمها هي التي لا ينكر فيها على المخالف ، ما دام متبعاً لإمام من الأئمة وهو يظن أن قوله هو الصواب ، ولكن لا يجوز لأحد أن يأخذ من أقوال الأئمة ما يتوافق مع هواه ، فإنه بذلك يجتمع فيه الشر كله .

وعدم الإنكار على المخالف في هذه المسائل ونحوها ، لا يعني عدم التباحث فيها ، أو عدم التناظر وبيان القول الراجح بدليله ، بل لم يزل العلماء قديماً وحديثاً تعقد بينهم اللقاءات والمناظرات للتباحث في مثل هذه المسائل ، ومن ظهر له الحق وجب عليه الرجوع إليه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

"… إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين: تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (30/80) .

وهذه أقوال لبعض العلماء تؤيد ما سبق من التقسيم :

1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

"وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل.

أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء .

وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.

أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس. والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً ، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه ، فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها" انتهى باختصار .

"بيان الدليل على بطلان التحليل" (ص 210-211) .

وقال أيضاً :

" مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/207) .

2- وقال ابن القيم رحمه الله :

"وقولهم : "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح . . . ثم ذكر كلام شيخ الإسلام المتقدم ، ثم قال :

وكيف يقول فقيه : لا إنكار في المسائل المختلف فيها ، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟! وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مَسَاغ لم تنكر على مَنْ عمل بها مجتهداً أو مقلداً . . .

والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينـزل، وأن ربا الفضل حرام ، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يُقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفرا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صَدَاقاً، وأن التيمم إلى الكوعين (مفصل الكف) بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصَراة يرد معها عوض اللبن صاعاً من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها.

وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهره" انتهى .

"إعلام الموقعين" (3/ 300-301).

3- وقال ابن قدامة المقدسي: " لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات " انتهى من "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/186) .

4- قال النووي في "شرح مسلم" :

" قال العلماء : لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِض عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إِذَا لَمْ يُخَالِف نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا " انتهى .

5- وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فإن أراد القائل مسائل الخلاف ، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة، فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان ، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه، وترك ما خالفه؛ فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه وينكر عليه، وإن أريد بمسائل الاجتهاد : مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب فهذا كلام صحيح، ولا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم ، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم ، وهذا كله داخل في قوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم) " انتهى من "الدرر السنية" (4/8).

6- وقال الشوكاني :

"هذه المقالة –أي لا إنكار في مسائل الخلاف- قد صارت أعظم ذريعة إلى سدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنـزلة التي بيّناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته: ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً.

وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك، فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانياً.

وهذه الشريعة الشريفة التي أُمِرْنا بالأمر بمعروفها، والنهي عن منكرها، هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة" انتهى من "السيل الجرّار" (4/588).

7- وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ردًا على من قال: "المسائل الخلافية لا إنكار فيها" .

" لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق ، ذهب الدين كلّه حين تتبع الرخص لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين الناس . . .

المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم : مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حظ من النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم، لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي : أي قول يمرُّ عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة ، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : "العوام على مذهب علمائهم" . . .

القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له" انتهى باختصار من "لقاء الباب المفتوح" (49/192-193) .

والله أعلم .

وانظر كتاب : "حكم الإنكار في مسائل الخلاف" للدكتور فضل إلهي ظهير .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android