يوسوس له الشيطان بتخيل صورة لله تعالى ليحقق معنى الإحسان !
السؤال: 72892
أنا أحاول في العبادات المتعلقة بالذكر كالصلاة والدعاء أن أعبد الله كأني أراه , لذلك فقد اعتدت أمراً لا أدري إن كان صحيحاً أم لا , وذلك أنى أحاول أن أتصور الله أمامي وأنا في صلاتي مثلاً , ولكن عقلي البشري الضعيف أقرب ما يذهب إليه هو صورة إنسان ، وأنا أعلم أن هذا أبعد ما يكون عن الملِك الذي ليس كمثله شيء , أيضاً أحاول أن أهيئ لنفسي وأنا ساجد مثلا أني أمام الكعبة ، وقد أشعر بأني قريب من الله فعلا ، ولكني أيضا لا أشعر بكامل القرب من الله لأني أدرك أن الله أعظم من ذلك كثيراً .
أرجو أن تعلموا أن أمري ليس وسوسة ، ولكني أريد القرب أكثر من الله , فانصحوني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً : اعلم يا عبد الله أن الله تعالى احتجب عن خلقه في دار الدنيا ، فلا يراه
بشر فيها ، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا من دونه .
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ
الْفِرْيَةَ ) رواه البخاري (4855) ومسلم (177) واللفظ له .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدا من
المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا ، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله
عليه وسلم خاصة ، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا ؛ وعلى هذا
دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين .
) مجموع الفتاوى 2/335
وإذا كان البشر ، كل البشر ، قد حجبوا في دار الدنيا عن هذه الرؤية ، فالبشر ، كل
البشر أيضا ، عاجزون عن الوقوف على حقيقة ذاته سبحانه ، أو كيفية شيء من صفاته ؛
لأن الإنسان لا يتخيل شيئا تخيلا صحيحا إلا أن يكون رآه ، أو رأى شبيه هذا الشيء أو
نظيره ، حتى ينتقل خياله من صورة الشيء الذي رآه إلى صورة ما غاب عنه .
وبناء على ذلك ، اعلم ـ أيها الأخ الكريم ـ أن كل صورة في خيالك ، أو توهم كيفيةٍ
في بالك ، فالله تعالى بخلاف ذلك ، بل : الله تعالى أجل وأعظم من كل ذلك . وأن
اشتغالك بهذه الخيالات وساوس واستدراج من الشيطان ، ليشغلك بما يضرك عما ينفعك ،
وبالباطل عن الحق . قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته : ( ولا تثبت قدم
الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام . فمن رام علمَ ما حُظر عنه علمه ، ولم
يقنع بالتسليم فهمه ، حجبه مرامه عن خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان
؛ فيتذبذب بين الكفر والإيمان ، والتصديق والتكذيب ، والإقرار والإنكار ،
مُوَسْوِسا تائها شاكا ، لا مؤمنا مصدقا ، ولا جاحدا مكذبا ) [ متن العقيدة
الطحاوية ص 14 ] .
وقد
علمنا النبي صلى الله عليه وسلم طريق دفع الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب العبد
، فيما يتعلق بالله جل جلاله
، فقال : ( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا
حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ
بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) رواه البخاري( 3276 ) ومسلم (134)
قال
النووي رحمه الله : مَعْنَاهُ
: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي
دَفْع شَرّه عَنْهُ , وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ , وَلْيَعْلَمْ أَنَّ
هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان , وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى
بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاء فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إِلَى وَسْوَسَته
وَلْيُبَادِرْ إِلَى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
وراجع كلاما مفيدا في فتاوى الشيخ ابن عثيمين ( 1 / السؤال رقم 18 )
وأما القرب الذي تبحث عنه وتنشده في عبادتك لربك عز وجل ، فنعم مقام العابدين هو :
(
أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك !! ) .
غير
أن هذا المقام العظيم الجليل لا يحتاج منك أن تجهد نفسك ، وتشتت قلبك في البحث عن
شيء لن تدركه ، وهو تخيل صورة الله عز وجل ؛ وإنما يحتاج منك أن تستحضر من صفات
الجلال والكمال والجمال لله عز وجل ما يعينك على حضور القلب في عبادته سبحانه ،
والإقبال عليه بكليتك . قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ( وقوله صلى الله عليه وسلم
في تفسير الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه .. ، يشير إلى أن العبد يعبد الله على
هذه الصفة ؛ وهي استحضار قربه ، وأنه بين يديه ؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة
والتعظيم ، كما جاء في رواية أبي هريرة :
”
أن تخشى الله كأنك تراه ” [ رواه بهذا اللفظ : مسلم (10) ] .
ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها ) جامع
العلوم والحكم 1/104
وقال ابن القيم – رحمه الله – : ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب
الحياء و الإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه
والذل له
ويقطع الوسواس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله .
فحظ
العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون
بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد
. ” رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ” ( ص 38 ، 39 ) ، وانظر أيضا : جامع العلوم
والحكم ، لابن رجب ( 1/103) وما بعدها ، ط دار ابن الجوزي ، معارج القبول ، للشيخ
حافظ الحكمي ( 3 / 999 ، 1000 ) .
وقد
أشار أهل العلم إلى جملة من الأعمال والأحوال
، متى اجتهد العبد في تحقيقها كانت له عونا على القرب من ربه عز وجل ، وبحسب سعي
العبد في القرب من ربه عز وجل ، يكون قرب الله تعالى منه ؛ فأقلَّ إن شئت أو استكثر
!!
ومن
هذه الأمور :
1.
تحقيق التوحيد وترك الشرك الأكبر والأصغر .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :
وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله ، وهو تحقيق
كلمة الإخلاص ” لا إله إلا الله ” . الاستقامة ” ( ص 195 ) .
2.
معرفة صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله .
قال
ابن القيم – رحمه الله – : ( مشهد الإحسان ، وهو مشهد المراقبة ، وهو أن يعبد الله
كأنه يراه ، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ، حتى
كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستوياً على عرشه ، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر
الخليقة ؛ فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه ، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند
الموافاة عليه ؛ فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته ويشهد قيوماً حيّاً
سميعاً بصيراً عزيزاً حكيماً آمراً ناهياً ، يحب ويبغض ، ويرضى ويغضب ، ويفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد ، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم
ولا بواطنهم ، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) رسالة ابن القيم إلى أحد
إخوانه ( ص 38 ) .
3.
تحقيق الولاية ، ويكون تحقيقها بالإيمان والتقوى ، كما قال تعالى : (
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يونس/62،63 .
قال
ابن القيم رحمه الله : ( الولاية هي القرب من الله عز وجل ، فولي الله هو القريب
منه ، المختص به ، والولاء هو في اللغة : القرب . ) بدائع الفوائد ( 3 / 621 ) .
4.
المداومة على الصلاة ، وبخاصة استشعار القرب من الله تعالى في السجود ؛ فإنه
أقرب ما يكون العبد فيه قرباً لربه تعالى ، وكذا الصلاة في آخر الليل . قال تعالى :
(
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) العلق/19 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ
فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) رواه مسلم ( 482 ) .
وعن
عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ
اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) .
رواه الترمذي ( 3579 ) والنسائي ( 572 ) ، وصححه الألباني في ” صحيح الجامع ” (
1173 ) .
5.
تحقيق التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(
وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من
الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها ) . مجموع الفتاوى ” ( 15 / 55 ) .
6.
ذكر الله تعالى على كل حال ، من أذكار وأدعية وتسبيح وتحميد وتهليل :
قال
ابن القيم رحمه الله : ( والذِّكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه ،
وهذه هي المنزلة ) . ” الوابل الصيب ” ( 1 / 96 ) .
7.
تحقيق الخوف منه عز وجل :
قال
ابن القيم رحمه الله : ( هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده ، وكلما
كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد ؛ لأنه يطالَب بما لا يطالَب به غيره ،
ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره ، ونظير هذا في الشاهد
أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له ، أشد خوفاً منه من البعيد عنه ؛ بحسب
قربه منه ومنزلته عنده ، ومعرفته به وبحقوقه ، وأنه يطالب من حقوق الخدمة وأدائها
بما لا يطالب به
غيره ، فهو أحق بالخوف من البعيد ، ومَن تصور هذا حق تصوره فهم قوله ( إني أعلمكم
بالله وأشدكم له خشية )
طريق الهجرتين ( 1 / 427 ، 428 ) .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعتم بهذه الإجابة؟