يلاحظ في هذه الأيام تسرع بعض الشباب في التكفير وانزلاقهم في هذا المنعطف الخطير وما يتبع ذلك من أمور لا تحمد عقباها تتعلق بالدماء والأعراض فهل من نصيحة شيخنا الفاضل ؟
بيان هيئة كبار العلماء : في ذم الغلو في التكفيـر وما ينشأ عنه من أثر خطير
السؤال: 92785
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لاشك أن التسرع في التكفير ، والاستهانة بالدماء والأعراض ، من أخطر المنزلقات التي قد يقع فيها الشباب ، بتزيين من الشيطان ومكره ؛ لأن هذه المسائل الكبيرة لا ينبغي أن يتكلم فيها إلا العلماء الراسخون ، والخائض فيها بغير علم ، إنما يخوض في الفتنة ، ويرتكس في الضلالة ، لأن الخطأ في هذه المسائل ليس كالخطأ في غيرها ، فالخطأ هنا يعني إخراج المسلم من دينه ، وإهدار دمه ، واستباحة ماله وعرضه ، ولهذا كان الواجب على كل مؤمن أن يحذر من هذا المسلك ، وأن يحرص على طلب العلم ، ولزوم العلماء ، والتفقه في الدين ، قبل أن يتكلم في هذه المسائل .
وقد صدر عن هيئة كبار العلماء نصيحة بليغة ، وبيان شاف في هذا الأمر ، هذا نصه :
” الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد :
فقد درس مجلس (هيئة كبار العلماء)- في دورته التاسعة والأربعين – المعنقدة بالطائف ، ابتداء من تاريخ (2/4/1419) ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية – وغيرها – من التكفير والتفجير ، وما ينشأ عنه من سفك الدماء ، وتخريب المنشآت .
ونظراً إلى خطورة هذا الأمر ، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة ، وإتلاف أموال معصومة ، وإخافة للناس ، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم : فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك ؛ نصحا لله وعباده ، وإبراء للذمة ، وإزالة للبس في المفاهيم – لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك – .
فنقول وبالله التوفيق – :
أولا : التكفير حكم شرعي ، مرده إلى الله ورسوله ؛ فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب : إلى الله ورسوله ، فكذلك التكفير .
وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل ، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة .
ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله ، لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره – دلالة واضحة – ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن ؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة .
وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات – مع أن مما يترتب عليها أقل مما يترتب عل التكفير – ، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات .
ولذلك حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر ، فقال ( أيما امرئ قال : لأخيه يا كافر فد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه ) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول ، أو العمل ، أو الاعتقاد كفر ، ولا يكفر من اتصف به ؛ لوجود مانع يمنع من كفره .
وهذا الحكم ، كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها ، وانتقاء موانعها ، كما في الإرث ، فسببه القرابة – مثلا – وقد لا يرث بها ؛ لوجود مانع كاختلاف الدين ، وهكذا الكفر يُكره عليه المؤمن ، فلا يكفر به .
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر ؛ لغلبة فرح ، أو غضب ، أو نحوهما ، فلا يكفر بها ؛ لعدم القصد ، كما في قصة الذي قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة ، من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث ، وفسخ النكاح ، وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة ؟!
وإذا كان هذا في ولاة الأمور: كان أشد ؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم ، وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضى ، وسفك الدماء ، وفساد العباد والبلاد ؛ ولهذا منع النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – من منابذتهم ، فقال : ( … إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه من حديث عبادة رضي الله عنه .
– فأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : ” إلا أن تروا ” أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة .
– وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : ” كفرا ” أنه لا يكفي الفسوق – ولو كبر – ، كالظلم ، وشرب الخمر ، ولعب القمار ، والاستئثار المحرم .
– وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : ” بواحا ” أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح ، أي : صريح ظاهر .
– وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : ” عندكم فيه من الله برهان ” أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة .
– وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام : ” من الله ” : أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة ، إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله ، أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – .
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول : أن التسرع في التكفير له خطره العظيم ؛ لقول الله – عزوجل – : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) الأعراف / 32 .
ثانيا : ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء ، وانتهاك الأعراض ، وسلب الأموال الخاصة والعامة ، وتفجير المساكن والمركبات ، وتخريب المنشآت ، فهذه الأعمال – وأمثالها – محرمة شرعا – بإجماع المسلمين – ؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمات الأموال ، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار ، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم ، وغدوهم ورواحهم ، وفيه هتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم ، وأعراضهم ، وأبدانهم ، وحرم انتهاكها ، وشدد في ذلك ، وكان من آخر ما بلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته ، فقال في خطبة حجة الوادع : ( إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ؛ عليكم حرام : كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ثم قال – صلى الله عليه وسلم – : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ) متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه )رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال – عليه الصلاة والسلام – : ( اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
وقد توعد الله – سبحانه – من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد ، فقال – سبحانه – في حق المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) النساء / 93 .
وقال سبحانه في حق الكافر – الذي له ذمة – إذا قتل الخطأ : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) النساء / 92 .
فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه دية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمدا ؟! فإن الجريمة تكون أعظم ، و الإثم يكون أكبر .
وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( من قتل معاهداً ، لم يرح رائحة الجنة ) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
ثالثا : إن المجلس إذ يبين حكم التكفير الناس – بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، وخطورة إطلاق ذلك ؛ لما يترتب عليه من شرور وآثام – ، فإنه يعلن للعالم : أن الإسلام برئ من هذا المعتقد الخاطئ ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة ، وتفجير للمساكن والمركبات ، والمرافق العامة والخاصة وتخريب للمنشآت : هو عمل إجرامي ، والإسلام منه برئ ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر برئ منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف ، وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله علي الإسلام ، ولا علي المسلمين المهتدين بهدي الإسلام ، المعتصمين بالكتاب والسنة ، المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة ؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة بتحريمه ؛ محذرة من مصاحبة أهله :
قال تعالى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )البقرة / 204 .
والواجب على جميع المسلمين – في كل مكان – التواصي بالحق ، والتناصح ، والتعاون على البر والتقوى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؛ كما قال الله – سبحانه وتعالى- : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) البقرة / 2 .
وقال – سبحانه- : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) التوبة / 71 .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( الدين النصيحة [ ثلاثا ] ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه .
وقال – عليه الصلاة والسلام – : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ؛ اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
والآيات والأحاديث – في هذا المعنى – كثيرة .
نسأل الله سبحانه ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ـ أن يكف البأس عن جميع المسلمين ، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد ، وقمع الفساد والمفسدين ، وأن ينصر بهم دينه ، ويعلى بهم كلمته ، وأن يصلح أحوال المسلمين – جميعا – في كل مكان ، وأن ينصر بهم الحق إنه ولي ذلك ، والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد ، وآله ، وصحبه ” انتهى .والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب