قرأت في أحد المواقع الإسلامية عن صفات الحبيب المصطفى ، وقد أدى ذلك إلى بكائي بعض الشيء ، وهذا يقع لي – أي البكاء – حتى في بعض الصلوات في المسجد ، خصوصا إذا كان للإمام صوت شجي ، ولكن على الرغم من هذا فإني أقع في بعض المعاصي كالعادة السرية ، ورفع صوتي شيئاً ما على والداي ، وقد قرأت في موقعكم أسباب هذه المعاصي وكيفية التخلص منها ، وسؤالي هل ما أقوم به من أعمال قبيحة أُعدُّ منافقا ؟ .
يبكي لسماع القرآن ويمارس العادة السرية ويسيء لوالديه فهل هذا نفاق ؟
السؤال: 98351
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
نرى – أخي الفاضل – أن سؤالك عن نفسك إن كنت منافقاً أم لا : يدل على خيرٍ عظيم عندك إن شاء الله ؛ وذلك أن خوف المسلم على نفسه من أن يكون واقعاً في النفاق يدل على حياة قلبه ، وعلى حرصه على إيمانه أن يُخدش ، َقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ : مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا ، وقال الحسن البصري – عن النفاق – : مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ .
قال ابن القيم رحمه الله :
وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة ، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم ، فكان عمر يقول لحذيفة : ناشدتك الله هل سماني رسول الله مع القوم ؟ فيقول : لا ، ولا أزكي بعدك أحداً ، يعني : لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس ، وليس معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك .
” طريق الهجرتين ” ( ص 604 ) .
وقد خاف كبار الأولياء على أنفسهم من هذا :
1. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلِّهم : عائشة ، وأختها أسماء ، وأم سلمة ، والعبادلة الأربعة ، وأبو هريرة ، وعقبة بن الحارث ، والمسور بن مخرمة , فهؤلاء ممن سمع منهم , وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء : كعلي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص , وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال , ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع ؛ وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص ، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم , بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم .
” فتح الباري ” لابن حجر ( 1 / 110 ، 111 ) .
2. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
وقال الجعد أبو عثمان : قلت لأبي رجاء العطاردي : هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق ؟ قال : نعم ، إني أدركت بحمد الله منهم صدراً حسناً ، نعم ، شديداً ، نعم ، شديداً ، وكان قد أدرك عمر .
3. وقال – رحمه الله – :
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة : حذيفة ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأما التابعون : فكثير ، قال ابن سيرين : ما علي شيء أخوف من هذه الآية ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) البقرة/ 8 ، وقال أيوب : كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي ، وقال معاوية بن قرة : كان عمر يخشاه وآمنه أنا ؟ ، وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدّاً ، وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم .
وقال الإمام أحمد – في رواية ابن هانيء وسئل : ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه ؟ ، – فقال : ومن يأمن على نفسه النفاق ؟ .
” فتح الباري ” لابن رجب ( 1 / 178 ، 179 ) .
وانتبه – أخي الفاضل – إلى أمرين مهمين :
الأول : أن أولئك الأئمة من الصحابة ومن بعدهم كان النفاق الذين يخشونه هو نفاق العمل ، وهو الطريق إلى نفاق القلب الذي يودي بصاحبه إلى النار – والعياذ بالله – ، وهذا النفاق هو الوارد في جملة من الأحاديث تحذر المسلم من التخلق بأخلاقهم ، ومنها :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خََصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ .
رواه البخاري ( 34 ) ومسلم ( 58 ) .
ورواه الترمذي – رحمه الله – ( 2632 ) وقال بعده :
وإنما معنى هذا عند أهل العلم : نفاق العمل ، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا أنه قال : النفاق نفاقان : نفاق العمل ، ونفاق التكذيب .
انتهى
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره : أن النفاق أصغر ، وأكبر ؛ فالنفاق الأصغر : هو نفاق العمل ، وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم ؛ وهو باب النفاق الأكبر ، فيُخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية ، كما قال تعالى ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف/ 5 ، وقال : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ) الأنعام/ 110 .
” فتح الباري ” لابن رجب ( 1 / 179 ) .
وللإمام النووي شرح مستوفى لهذا الحديث لا يخرج عن هذا ، فلينظر في ” شرح مسلم ” له ( 2 / 46 – 48 ) .
والأمر الثاني : أن هؤلاء الكبار كانوا أبر الناس قلوباً ، وأشدهم تعظيماً لحرمات ، وأبعدهم عن انتهاك حدوده ، لكن الواحد منهم لكمال علمه بربه ، وخوفه من مقامه ، يرى الذنب الصغير – إن وقع فيه – كبيراً ، بل كان بعضهم يخاف من الرياء ، وآخر يخاف أن يكون مقصراً في العمل فيكون قوله مخالفاً لفعله ، وآخرون ظنوا أن اشتغالهم بالمباح في بيوتهم مع زوجاتهم ، وأولادهم مع وجود الخشوع والرقة في مجالس الذكر ظنوا ذلك من النفاق .
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
رواه مسلم ( 2750 ) .
قال النووي – رحمه الله – :
قوله : ( عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات )
قال الهروي وغيره : معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به , أي : عالجنا معايشنا وحظوظنا , والضيعات : وهي : معاش الرجل من مال ، أو حرفة ، أو صناعة .
قوله : ( نافق حنظلة ) معناه : أنه خاف أنه منافق , حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم , ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر , والإقبال على الآخرة , فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا , وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر , فخاف أن يكون ذلك نفاقا , فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق , وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك , ( ساعة وساعة ) أي : ساعة كذا وساعة كذا .
” شرح مسلم ” ( 17 / 66 ، 67 ) .
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية : خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل ، والأولاد ، والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً ، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي … – وساق الحديث – .
” فتح الباري ” لابن رجب ( 1 / 111 ) .
وأما بالنسبة لحالك : فإنك يجب عليك أن تخاف أكثر من خوف أولئك الأولياء الأطهار من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ؛ وذلك لأنك تعصي الله تعالى بفعل العادة السرية ، وبإساءتك لوالديك ، وقولك ” ورفع صوتي شيئاً ما على والداي ” ! : لا ينجيك من التوعد بالعقوبة ، وأنت قد نهيت أن تقول لوالديك ” أف ” فكيف برفع الصوت عليهما ؟! فالواجب عليك الحذر من أن تؤدي معاصيك لخاتمة سوء ! .
والبخاري – رحمه الله – بوَّب على ما رواه عن إبراهيم التيمي وابن أبي مليكة والحسن البصري – مما ذكرناه عنهم آنفاً – بقوله ” قال البخاري – رحمه الله – : ” بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ” .
وختم تبويبه بقوله :
” وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ” .
انتهى
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :
وقول البخاري بعد ذلك : ” وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ( وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون ) : فمراده : أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يُخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية ، وبالوصول إلى النفاق الخالص ، وإلى سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما يقال : ” إن المعاصي بريد الكفر ” .
” فتح الباري ” لابن رجب ( 1 / 181 ) .
ثانياً:
إننا ندعوك للاستمرار على رقة القلب والبكاء عند سماع القرآن ، وسماع المواعظ ، وفي الوقت نفسه ندعوك للتوبة من فعل المعاصي ، وندعوك للكف عن العادة السيئة ، وندعوك للكف عن الإساءة لوالديك ، والمسارعة للتأسف منهما ، والبر بهما ، والإحسان إليهما بالقول والفعل ، واحذر من الاستمرار على المعاصي دون توبة ، واعلم أنه ليس الخائف من بكى وعصر عينيه ، ولكن الخائف من ترك الأمر الذي يخاف أن يعاقب عليه .
وما نقلناه لك من الوعيد على ذلك كافٍ لك – إن شاء الله – لأن تبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب