أكتب إليكم هذه الرسالة وأنا أتقطع ألما وحرقة لعلي أجد الجواب الشافي عندكم .
سؤالي كالتالي : أنا شاب مَنَّ الله علي بالالتزام وأنا أصر على بعض المعاصي وأتهاون في الصلوات مؤخرا وذلك لأن لدي حركة لا إرادية مزعجة بجانب الفم تظهر كلما ضحكت أو تعرضت لموقف محرج ، وهذا سبب لي رهبة اجتماعية ومشاكل نفسية ، والعجيب أني حاولت في إحدى المرات أن أذهب لأحد الرقاة ولكن ينتابني خوف شديد لأني قد ذهبت مرة ورأيت نطق الجان على لسان بعض المرضى فبعدها صرت أخاف من الرقية مع أني أقرأ آية الكرسي والمعوذات ولا أتأثر ، فو الله إنها ضاقت بي الأرض بما رحبت وبدأ يتسلل إلى قلبي اليأس وأخاف أن أقنط من رحمة الله وأخشى أن تؤثر على وظيفتي فأفقد عملي وتنقلب حياتي رأسا على عقب . فما الحل ؟
لديه عيب خلقي جعله يتحاشى الناس ويفرط في الصلوات
السؤال: 112310
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ينبغي أن تحمد الله تعالى وتشكره على نعمة الالتزام ، فهي أجل النعم ، وأن تعلم أن الشكر هو باب المزيد ، كما قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )إبراهيم/7 .
ثانيا :
تأمل فيمن حولك من الناس ، كم فيهم من مريض ، ومبتلى ، وذي حاجة ، لتعلم أن ما تعاني منه لا يعد شيئا بالنسبة لمعاناة كثير من الناس ، فاحمد الله تعالى ، واصبر ولا تجزع .
وفي الحديث : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) رواه مسلم (2963) .
ولو أنك زرت إحدى المستشفيات ، وتأملت ما يعانيه الناس ؛ لأدركت أنك في خير عظيم ، ونعمة سابغة ، وأنك مقصر في شكر ربك ومولاك ، بل وتخشى من القنوط من رحمته ، عجبا لك ، لو تأملت في بدنك لرأيت مئات النعم تتوالى عليك ، نعمة النظر ، والسمع والنطق ، والمشي ، وسلامة الجوارح ، وأهمها هداية القلب ، ثم تتأذى من حركة لا إرادية تظهر أحيانا ، فكيف لو كنت أخرس أو أعمى أو أعرج أو مقعدا ، فاحمد الله تعالى ، واحذر أن تسلب النعم بكفرانها وجحودها .
قال ابن القيم رحمه الله : ” حبس السلطان رجلا فأرسل إليه صاحبه : اشكر الله ، فضُرب ، فأرسل إليه : اشكر الله ، فجيء بمحبوس مجوسي مبطون في قيد ، وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في الرجل المذكور ، فكان المجوسي يقوم بالليل مرات [أي لقضاء حاجته] ، فيحتاج الرجل أن يقف على رأسه حتى يفرغ ، فكتب إليه صاحبه : اشكر الله ، فقال له : إلى متى تقول : اشكر الله ، وأي بلاء فوق هذا ؟ فقال : ولو وضع الزنار الذي في وسطه في وسطك كما وضع القيد الذي في رجله في رجلك ماذا كنت تصنع ؟! فاشكر الله ” انتهى من “عدة الصابرين” ص 123 ، والزنار كان يلبسه الكفار تمييزا لهم عن المسلمين .
والمقصود من هذه القصة : أنه مهما ابتلي المؤمن في بدنه ، فلا تزال نعم الله تعالى عليه لا يستطيع إحصاءها ، وأعظمها نعمة الهداية إلى هذا الدين .
فانظر في حال من هو دونك ، وتأمل ما منحك الله من النعم ، فذلك من أعظم الوسائل التي تعين على الصبر ، بل تجلب الرضى ، وتساعد على الشكر .
ثالثا :
من ابتلي بمصيبة من المصائب فهو بين أمرين : أن يصبر ويحتسب ، فينال الأجر العظيم والثواب الكريم ، كما قال تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة/155- 157 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10 .
أو أن يجزع ويتسخط ، فينال الإثم والعقاب ، مع بقاء مصيبته ، فلا يفيده الجزع شيئا ، وإذا خُيِّر العاقل بين الأمرين اختار الأول ولا شك ، فإن المصيبة موجودة على كل حال ، فلم لا يكسب الثواب ، ويجني الحسنات ؟ وأي مصلحة في جلب السيئات ، وتعريض النفس للعقاب ، بل أي مصلحة في الجمع بين مصيبة الدنيا وعقاب الآخرة ؟
رابعا :
لا وجه للتخوف من الرقية ، فإنها نافعة في كل حال ، سواء كنت مصابا بعين ونحوها أو لم تكن مصابا ، والحالة التي تشكو منها قد تكون بسبب شيء من ذلك .
وأهم ما نوصيك بك أن تتجاوز هذه المرحلة ، وأن تعرض عن التفكير في هذا الأمر ، وأن لا تلتفت إلى نظر الآخرين ورأيهم ، فإنهم سيرونك مهما حاولت إخفاء عيبك – إن كان هناك عيب – فلا تبال بذلك ، فأنت أفضل من عشرات ممن هم في سنك أو مجتمعك ، وكم من صاحب عيب وعاهة هو محبوب محترم بين الناس ، قد زكّاه إيمانه ، وقدّمه اجتهاده ، وجمّله خلُقه .
وهذا عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة التابعين ، قال عنه الذهبي رحمه الله : “الإمام شيخ الإسلام، مفتي الحرم” .
ثم قال في وصفه : ” قال ابن سعد: هو مولى لبني فهر أو بني جمح ، انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد ، وأكثر ذلك إلى عطاء .
سمعت بعض أهل العلم يقول : كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج ، ثم عمي ، وكان ثقة، فقيها ، عالما ، كثير الحديث .
قال أبو داود : أبوه نوبي ، وكان يعمل المكاتل ، وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود ، قال : وقطعت يده مع ابن الزبير ” انتهى من “سير أعلام النبلاء” (5/78) .
فانظر .. هل منعته هذه الأوصاف من طلب العلم ، وإمامة الناس ، والتصدي للتدريس والإفتاء ، والبذل والعطاء ؟
وهل كانت هذه الأوصاف مانعة من إقبال الناس عليه ، وإجلالهم له ، وأخذهم العلم عنه ؟
وانظر .. كم أعطاك الله من نعمة في بدنك حُرمها ذلك الإمام الكبير ؟
قال الذهبي في تتمة ترجمة هذا الإمام : ” قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك [الخليفة] ، وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف ، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته ، فلما بصر به عبد الملك، قام إليه فسلم عليه ، وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال : يا أبا محمد : حاجتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ! اتق الله في حرم الله ، وحرم رسوله ، فتعاهده بالعمارة ، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس ، واتق الله في أهل الثغور ، فإنهم حصن المسلمين ، وتفقد أمور المسلمين ، فإنك وحدك المسؤول عنهم ، واتق الله فيمن على بابك ، فلا تغفل عنهم ، ولا تغلق دونهم بابك ، فقال له : أفعل ، ثم نهض وقام ، فقبض عليه عبد الملك وقال : يا أبا محمد ! إنما سألتنا حوائج غيرك ، وقد قضيناها ، فما حاجتك ؟ قال : مالي إلى مخلوق حاجة ، ثم خرج ، فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشرف ، هذا وأبيك السؤدد ” انتهى .
فنوصيك بالتوبة إلى الله تعالى ، والإقبال عليه ، والاجتهاد في طاعته ، والإكثار من شكره وحمده ، وعدم الالتفات إلى ذلك الأمر ، والاجتهاد في عملك ووظيفتك ، والإحسان وبذل المعروف للناس ، فإنك تنال بذلك الأجر والرفعة في الدنيا والآخرة .
نسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب