أنا محتار ومتردد بين حفظ : ” بلوغ المرام “، وبين حفظ : ” الجمع بين الصحيحين ” في العطلة القادمة في الصيف ، وأخشى أن أدخل دورة الصحيحين ثم لا أستطيع أن أواصل في الحفظ ، حيث إن المقرر حفظ (20) وجها يوميا .
فما مشورة إخواني طلاب العلم في الموقع ؟
محتار بين حفظ بلوغ المرام أو الجمع بين الصحيحين
السؤال: 113469
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نصيحتنا لك ألا تتردد في دخول دورة حفظ الصحيحين ، وأن تقدمها على كل مشروع علمي تشتغل به الآن ، فقد لمسنا فيها الخير الكبير ، والفائدة العظيمة ، والحق يقال : إنها من نعم الله تعالى على طلبة العلم في هذه الأيام ، أن يجد الطالب – في مقتبل الطلب – فرصةَ التفرغ لحفظ أهم مصدر من مصادر الشريعة بعد كتاب الله تعالى ، ويقضي أيامه وأوقاته بين يدي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحفظ عباراته ، ويستظهر أقواله وأفعاله وسيرته صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون ذلك في المسجد الحرام ، أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
فأي نعمة أعظم من هذه النعمة !
وأي فرصة ينتظر طالب العلم كي يحقق إنجازا عظيما كحفظ الصحيحين ؟!
والله سبحانه وتعالى لا يخيب رجاء طالبٍ صادقٍ لجأ إليه سبحانه أن يعينه على الحفظ والفهم ، وتوكل عليه سبحانه أن يسهل عليه كل عسير ، ثم جلس في الروضة الشريفة يرجو أن يفتح الله عليه كما فتح على الإمام البخاري الذي كتب السنة والتراجم على ضوء القمر في هذا المكان المبارك .
هل ترى أخي الكريم أن الطالب الذي امتلأ قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمنى أن لو رآه بنفسه وماله وولده ، واحتسب أن ييسر الله له بطلبه العلم سبيل الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، هل ترى مثل هذا الطالب يخيب سعيه ، ولا يرجع بالعلم والأجر والفضل ، أم تراه وقع فيما سيندم عليه ، ويراه – في مستقبل الأيام – مشغلة ومضيعة؟!
وقد سمعنا عن بعض أهل العلم المعاصرين من كاد قلبه يتفطر ألما أن فرصة مثل هذه فاتته في بداية طلبه ، فلا تُفَوِّت أنت الفرصة ، وبادر إلى الخير ، واستعن بالله عز وجل .
أما حيرتك بين حفظ ” الجمع بين الصحيحين ” ، وحفظ ” بلوغ المرام ” : فنحن نميل إلى أن حفظ الأول أولى وأفضل من نواحٍ عديدة :
أولا : حفظ واستظهار أحاديث الصحيحين يعني استيعاب – ولو بقدر ما – المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وهي السنة التي عليها مدار الدين والشريعة ، وذلك يخلق في نفس الطالب قوة علمية تأصيلية متينة .
ثانيا : في حفظ ” الجمع بين الصحيحين ” أولا تدرج منهجي في حفظ السنة النبوية ، فالبداية في الأحاديث المتفق عليها ، ثم مفردات البخاري ، ثم مفردات مسلم ، ثم يستكمل الطالب زوائد السنن والمسانيد على الصحيحين ، وهكذا حتى يستكمل حفظ مجمل السنة النبوية ، ولا شك أن التدرج في الحفظ ينظم عقلية الطالب ، ويرفع همته وهو يستشعر إنجاز مراحل الحفظ مرحلة بعد أخرى .
ثالثا : البداية بحفظ ” الجمع بين الصحيحين ” تسهل على الطالب معرفة مخرج الحديث ومصدره ، أما البداية بكتب أحاديث الأحكام المنتقاة من كتب السنة كثيرا ما تؤدي إلى اختلاط مصادر الأحاديث في ذهن الطالب ، فلا يكاد يستحضر من أخرج الحديث من أصحاب الكتب الستة .
رابعا : استحضار أحاديث الصحيحين يخلق في نفس الطالب دافعا قويا لاستكمال حفظ كتب السنة ، فقد لمس فعليا إمكانية استظهار أحاديث أعظم كتابين من كتب السنة ، فلا يرى حائلا يحول دون استكمال زوائد السنن إلا الوقت ، وهذا حافز مهم جدا في النجاح والإبداع .
خامسا : مَن حفظ ” الجمع بين الصحيحين ” فهو أقدر على استكمال واستظهار أحاديث الأحكام من كتبها : كـ ” المنتقى “، و ” المحرر “، و ” بلوغ المرام “، فإن هذه الكتب اقتصرت فقط على أحاديث الأحكام ، أما الصحيحان فهما يشملان الأحاديث في أبواب الدين جميعها .
أما خشيتك من الضعف أو العجز عن اجتياز الدورة وإتمام النصاب المطلوب من الحفظ ، فيمكننا أن نقدم لك فيه نصيحتين لعل فيهما إزالة هذه الخشية :
أما النصيحة الأولى : فهي أن تتذكر أن العقل البشري بحاجة إلى تدريب وتدرج في الحفظ ، تماما كما يتدرب الرياضي بعضلات جسمه لتعتاد على بذل المجهود البدني الكبير ، ولذلك قد تجد صعوبة على الحفظ في بداية أسابيع الدورة ، ولكنك ستجد نفسك شيئا فشيئا أقدر على الحفظ والتسميع .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
” أي عضو كثرت رياضته قوي ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة ، بل كل قوة فهذا شأنها ، فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ، ولكل عضو رياضة تخصه ” انتهى.
“زاد المعاد” (4/225)
وهذا أمر مجرب مشاهد ، فلا تستجب لتثبيط الشيطان لك ، فليس جميع من يشترك في دورات الحفظ هم من النوابغ العباقرة ، ولست أقل شأنا من أي مشترك ، وقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا عن صغار لم يبلغوا الحلم أتموا الحفظ المتقن لهذه الكتب المباركة ، كما شاهدنا من الكبار الذي تجاوزوا الخمسين من استطاع أن يحفظها أيضا ، كل ذلك بفضل الله أولا ، ثم بفضل العزيمة والتوكل على الله عز وجل .
أما النصيحة الثانية : فهي أن تحافظ على برنامج يومي لمراجعة ومذاكرة المحفوظ أثناء الدورة وبعدها ، وتيقن أن برنامج المراجعة أهم وأولى وأعظم شأنا بكثير من برنامج الحفظ ، لأن الحفظ لا يثبت إلا بالمذاكرة والمراجعة والتكرار ، وهذا يحتاج إلى أيام طويلة ، فاحتفظ بقدر – ولو يسير – بالمراجعة ، وإلا فلا تدخل طريق الحفظ ، فهو طريق لا يفلح فيه إلا من حافظ على نصاب يومي في المراجعة .
يقول الإمام الزهري رحمه الله :
” إنما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة ” انتهى.
“الفقيه والمتفقه” للخطيب البغدادي (3/63)
ولعل من أفضل الطرق التي نرشدك إليها في هذا الصدد ، ما ذكره الزرنوجي – في رسالته ” تعليم المتعلم طريق التعلم ” (ص/41- 42) – وجربه كثير من طلبة العلم ونفعهم الله بها ، وهي طريقة تجمع بين النفع والسهولة ، حيث يقول رحمه الله :
” وينبغي لطالب العلم أن يكرر سَبْق – يعني : المقدار الذي يحفظه – الأمس خمس مرات ، وسبق اليوم الذي قبل الأمس أربع مرات ، والسبق الذي قبله ثلاث مرات ، والذي قبله اثنين ، والذي قبله مرة واحدة ، فهذا أدعى إلى الحفظ ” انتهى.
وأخيرا ، فالحفظ كله خير إن شاء الله تعالى ، والأهم منه المذاكرة المستمرة ، والفهم الصحيح ، والعمل بما علم ، وتقوى الله تعالى سبب التوفيق والنجاح .
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأوَّلُ ما يجني عليه اجتهادُه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما :
” إنما يحفظُ الرجلُ على قدر نيته ” انتهى.
“الجامع لأخلاق الراوي” (2/257)
وانظر نصائح مهمة ذكرها الخطيب البغدادي في العون على الحفظ ، في ” الجامع لأخلاق الراوي” (2/249-279)
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب