قرأت في موقعكم تحت عنوان : ( الشهود الأربعة في حد الزنى فقط ) : ” أن الشهود على المغيرة بن شعبة بالزنا لما شهدوا به عند عمر رضي الله عنه ، وهم أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع ، وزياد ، فصرح بذلك أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع ، فأما زياد فقال له عمر : قل ما عندك ، وأرجو أن لا يهتك الله صحابيّاً على لسانك ، فقال زياد : ” رأيت نفساً تعلو ، أو استاً تنبو ، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا حمار ، ولا أدري يا أمير المؤمنين ما وراء ذلك ، فقال عمر : الله أكبر ، فأسقط الشهادة ولم يرها تامة ” .
وإني أحب الله ، ورسوله ، وصحابته ، ولكني صدمت بهذا الكلام ، فهل يعقل أن صحابيّاً راويا للأحاديث كالمغيرة بن شعبة يقوم بهذا الأمر ، وإن لم يثبت أنه زنا ، ولكن ثبت أنه قام بمقدمات الزنا على الأقل ، كما وصف الشاهد الرابع زياد ، أفلا يقدح ذلك بعدالته ؟ وضحوا لنا الأمر جزيتم خيراً ، فإن الكلام في صحابة رسولنا الكريم قد كثر هذه الأيام كي لا تشوه صورتهم في أعيننا .
وثانياً : هل ثبوت مقدمات الزنا عليه عقاب في الإسلام ؟ وإن كان نعم فما فعل عمر رضي الله عنه بالمغيرة؟
هل ثبت وقوع المغيرة بن شعبة في الزنا ؟ وما حكم من يفعل مقدماته في الشرع؟
السؤال: 120030
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
الصحابي الجليل ” المغيرة بن شعبة ” هو أحد أصحاب ” بيعة الرضوان ” الذين بايعوا النبي صلى الله عليهوسلم تحت الشجرة ، والذين أثنى الله عليهم بالخير ، وأخبر أنه رضي عنهم ، قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِيقُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا . وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) الفتح/18 ، 19 .
قال ابن كثير – رحمه الله – :
” يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض ” الحديبية ” .
وقوله : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي : من الصدق ، والوفاء ، والسمع ، والطاعة .
( فَأَنزلَ السَّكِينَةَ ) : وهي الطمأنينة ، ( عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر ، وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد ، والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز ، والنصر ، والرفعة في الدنيا ، والآخرة ، ولهذا قال : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ” انتهى .
” تفسير ابن كثير ” (7/339 ، 340 ) .
وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد لهم بالخيرية ، وأخبر أنهم من أهل الجنة :
أ. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : ( أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ) رواه البخاري ( 2923 ) ومسلم ( 1856 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : ” هذا صريح في فضل ” أصحاب الشجرة ” ، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكة ، وبالمدينة ، وبغيرهما ” انتهى .
” فتح الباري ” ( 7 / 443 ) .
ب.عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَذَبْتَ ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ) رواه مسلم ( 2495 ) .
ج. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال : أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ : ( لَا يَدْخُلُ النَّارَ – إِنْ شَاءَ اللَّهُ – مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا . قَالَتْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْتَهَرَهَا ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) رواه مسلم ( 2496 ) .
قال النووي – رحمه الله – : ” قال العلماء : معناه : لا يدخلها أحدٌ منهم قطعاً ، كما صرح به في الحديث الذي قبله – حديث حاطب – وإنما قال : ( إن شاء الله ) للتبرك لا للشك ، وأما قول حفصة بلى ، وانتهار النبي صلى الله عليه و سلم لها … فيه دليل للمناظرة ، والاعتراض والجواب ، على وجه الاسترشاد ، وهو مقصود حفصة ؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه و سلم .
والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط ، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون ” انتهى .
” شرح مسلم ” ( 16 / 58 ) .
وقد أسلم ” المغيرة بن شعبة ” رضي الله عنه عام الخندق ، وأول مشاهده : الحديبية ، ثم شهد اليمامة ، وفتوح الشام، والقادسية ، ونهاوند ، وهمدان ، وغيرها .
قال عنه الحافظ الذهبي – رحمه الله – : ” من كبار الصحابة ، أولي الشجاعة والمكيدة ، شهد بيعة الرضوان ، كان رجلا طِوالاً ، مهيبا ، ذهبت عينه يوم اليرموك ، وقيل : يومالقادسية ” انتهى .
“سير أعلام النبلاء” (3/21) .
وما جاء في روايات عدة من شهادةٍ عليه رضي الله عنه بالزنا : لم يثبت نصاب الشهادة فيها ، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمه رضي الله عنه بتلك الفاحشة البغيضة من غير اعتراف ، أو شهادة أربعة رجال ، وكلا الأمرين معدوم ، وقد جلد عمر رضي الله عنه الثلاثة الذين اتهموه بالزنا ؛ لعدم اكتمال نصاب الشهادة ، بعد تردد الرابع ، وعدم شهادته ، ولم يصنع شيئاً مع المغيرة لعدم ثبوت أصل الواقعة شرعاً .
وأما بخصوص المروي في وصف فعله رضي الله مع تلك المرأة : فالجواب عنه من وجوه :
1. سقوط ذلك كله شرعاً ، وعدم ثبوت شيء منه ؛ لتخلف نصاب الشهادة .
2. أن كثيراً من تلك الروايات لم تصح أصلاً من حيث إسنادها .
3. أن ذلك الأمر الذي حصل – إن جزمنا بحصوله واقعاً ، وهو ما سبب إشكالاً عند كثيرين – لم يكن مع امرأة أجنبية ، بل كان مع زوجةٍ من نسائه تشبه تلك التي ادُّعي عليها فعل الفاحشة مع ذلك الصحابي الجليل.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – : ” يظهر لنا في هذه القصة أن المرأة التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما : هي زوجته ، ولا يعرفونها ، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على المغيرة وغيره من الأمراء ، فظنوا أنها هي ، فهم لم يقصدوا باطلاً ، ولكن ظنهم أخطأ ، وهو لم يقترف – إن شاء الله – فاحشة ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال ، والعلم عند الله تعالى ” انتهى .
“مذكرة في أصول الفقه” (ص 152) .
4. وأمر آخر يخص الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة ، وهو أنه كثير الزواج ، فأي حاجة ليفعل الحرام ، وهو يجد من الحلال الكثير ؟! .
قال الذهبي – رحمه الله – : ” عن المغيرة بن شعبة قال : لقد تزوجت سبعين امرأة ، أو أكثر .
أبو إسحاق الطالقاني : حدثنا ابن المبارك قال : كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة ، قال : فصفهن بين يديه ، وقال : أنتن حسَنات الأخلاق ، طويلات الأعناق ، ولكني رجل مطلاق ، فأنتن الطلاق .
ابن وهب : حدثنا مالك قال : كان المغيرة نكَّاحا للنساء ، ويقول : صاحب الواحدة إن مرضت مرض ، وإن حاضت حاض ، وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان ، وكان ينكح أربعا جميعاً ، ويطلقهن جميعاً ” انتهى.
” سير أعلام النبلاء ” ( 3 / 31 ) .
5. ومعروف غيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حرمات الله ، وقوته في دينه ، ومعروف ـ أيضا ـ تشدده مع ولاته ، وقد ولَّى المغيرةَ بعد تلك الحادثة إمرة ” الكوفة ” ! ولو أنه ثبت عنده شبهة تلك المعصية فلعله لا يوليه ولاية قط ، وهذا يعني اقتناع عمر بعدم حصول تلك الواقعة أصلاً ، أو اقتناعه بأنها كانت زوجته ، ولعل الثاني هذا هو الأقرب .
وبما قلناه يسقط السؤال من أصله ، وليس ثمة حاجة للبحث في حكم فعله رضي الله عنه ؛ لأن ذلك السؤال مبني على كون تلك المرأة أجنبية .
ثانياً:
أما من حيث الحكم الشرعي ابتداءً : فإن مقدمات الزنى من الفواحش ، وقد سمَّاها الشرع ” زنى ” ، لكن الزنى الذي تترتب عليه الأحكام ، ويوجب الحدود : هو زنى الفرج ، لا زنى الأعضاء الأخرى .
وقد روى البخاري ( 6243 ) ومسلم ( 2657 ) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيُكَذِّبُهُ ) .
وقد نهى الله تعالى عن مقدمات الزنى ، فقال : ( وَلاَتَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) الإسراء/32 ، وقال: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الأنعام/151.
وللحاكم إن ثبت عنده فعل أحد من المسلمين مثل تلك المقدمات أن يعزره بما يراه مناسباً لحاله ، وفعله ، فليس في تلك الأفعال حدود ، بل فيها التعزير .
وينظر النقل في ذلك عن الأئمة ، مع شيء من التفصيل في أصل المسألة : جواب السؤال رقم : (27259 ) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة