نبذة عن ” القياس ” ، والرد على منكريه من الظاهرية
السؤال: 121798
يقول بعض الإخوة إن القياس ليس من الدين ، وإن أي حكم شرعي بني علي القياس فهو باطل ، هل هناك أي دليل من السنة أو السلف على شرعية القياس ؟ مع التفصيل ، وجزاكم الله عنا خيراً إن شاء الله .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
ليس
في شرع الله تعالى من مصادر للوحي غير القرآن والسنَّة ، فهما مرجع المسلمين في
اعتقادهم ، وأحكامهم ، وقد أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
في تلقي الأحكام ، لا غير ، وأمرنا عند التنازع والاختلاف أن نرجع إلى الكتاب
والسنَّة ليكونا حكماً بين المختلفين .
قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء/ 59 ،
وقال تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) الشورى/ 10 .
وإذا علمنا أن القياس ليس من مصادر التشريع : فهو لا يناقض أنه وسيلة لإثبات
الأحكام الشرعية التي تشترك مع المنصوص عليه بجامع العلة بينهما ، وهذا لا يتناقض
مع الآيات المذكورة ؛ لأن القياس كان على وارد في نصوص الوحي ، والشريعة لا تفرِّق
بين متماثليْن ، ومثله يقال في الإجماع ، حيث لا إجماع إلا على نص من الوحي ، فصارت
مصادر التشريع : الكتاب والسنَّة ، وأما الإجماع والقياس فمرجعهما إلى نصوص الوحي ،
فتسميتهما ” مصادر تشريع ” هي مسألة اصطلاحية ، فيها نوع من التسامح في العبارة ،
والمراد بها : أنه من المصادر المعرفة بتشريع الله ، والموصلة إليه .
وانظر جواب السؤال رقم : (
112268 ) .
ثانياً:
أما
نفاة القياس مطلقاً فهم الظاهرية ، وعلى رأسهم : أبو محمد ابن حزم ، وقد ساق الأدلة
والأقوال الكثيرة على نفي القياس في الشرع مطلقاً ، وقد ردَّ عليه أئمة التحقيق ،
وتتبعوا أدلته وأقواله بالرد والنقض ، وبينوا أنه ليس كل قياس معتبر ، كما لا يمكن
رد القياس الصحيح المنضبط ونفيه من الشرع .
ومن
الأئمة الذين تتبعوا أقوال الظاهرية بنفي القياس وردوا عليهم : الإمام ابن القيم
رحمه الله في كتابه ” إعلام الموقعين ” ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه ”
أضواء البيان ” .
وبعد أن ساق الشنقيطي رحمه الله مجمل أدلة الظاهرية في نفي القياس ختم ذلك بقوله :
اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت : أن
القياس قسمان : قياس صحيح ، وقياس فاسد
.
أما
القياس الفاسد
: فهو الذي ترِدُ عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية ، وتدل على بطلانه ، ولا شك أنه
باطل ، وأنه ليس من الدِّين كما قالوا ، وكما هو الحق .
وأما القياس الصحيح
: فلا يرِد عليه شيء من تلك الأدلة ، ولا يناقض بعضه بعضاً ، ولا يناقض البتة نصّاً
صحيحاً من كتاب ، أو سنَّة ، فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة : فإنه لا تتناقض
دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة ،
متعاضدة ، متناصرة ، يصدق بعضها بعضاً ، ويشهد بعضها لبعض ، فلا يناقض القياس
الصحيح النصَّ الصحيح أبداً .
وضابط القياس الصحيح هو
: أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه من أجلها موجودة بتمامها في الفرع
، من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه ، وكذلك القياس المعروف بـ ” القياس في
معنى الأصل ” الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم . فمثل ذلك لا تأتي
الشريعة بخلافه ، ولا يعارض نصّاً ، ولا يتعارض هو في نفسه . وسنضرب لك أمثلة من
ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح ، الفاضح ، وقولهم على الله ، وعلى رسوله ،
وعلى دينه أبطل الباطل ، الذي لا يشك عاقل في بطلانه ، وعظم ضرره على الدين ، بدعوى
أنهم واقفون مع النصوص ، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب ، أو سنَّة فهو معفو عنه
، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع ، فأهدروا المصالح
المقصودة من التشريع ، وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه .
فمن
ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه : من أن النَّبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( لاَ يَقْضِينَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَين وَهُوَ غَضْبان ) ،
فالنَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحُكم في وقت الغضب ،
ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا ؛ لأن الغضب يشوِّش الفكر ،
فيمنع من استيفاء النظر في الحكم ، فيكون ذلك سبباً لضياع حقوق المسلمين ، فيلزم
على قول الظاهرية – كما قدمنا إيضاحه – : أن النهي يختص بحالة الغضب ، ولا يتعداها
إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم ، فلو كان
القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيراً أشد من تأثير الغضب بأضعاف ، أو كان في جوع ،
أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب : فعلى قول الظاهرية : فحُكمُه بين
الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم : عفو ، جائز ؛ لأن الله
سكت عنه في زعمهم ، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين
التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع ، مع أن تنصيص النَّبي صلى الله
عليه وسلم على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة
تشويش الفكر تشويشاً كتشويش الغضب أو أشد منه ، كما لا يخفى على عاقل ، فانظر عقول
الظاهرية ، وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في
الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام ، مع نهي النَّبي صلى الله
عليه وسلم الصريح عن ذلك في صورة من صوره ، وهي الغضب ، بزعمهم أنهم واقفون مع
النصوص .
ومن
ذلك : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ
تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ،
فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة ، وترد شهادتهم ، ويحكم بفسقهم ، ثم استثنى من ذلك
من تاب من القاذفين من بعد ذلك ، وأصلح ، ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون
المحصنين الذكور .
فيلزم على قول الظاهرية : أن من قذف محصناً ذكراً ليس على أئمة المسلمين جلدَه ،
ولا رد شهادته ، ولا الحكم بفسقه ؛ لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم ، وما سكت عنه فهو
عفو ! .
فانظر عقول الظاهرية ، وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور ، بدعوى الوقوف
مع النص .
ودعوى بعض الظاهرية : أن آية ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) شاملة
للذكور بلفظها ، بدعوى أن المعنى : يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث ، والذكور
: من تلاعبهم ، وجهلهم بنصوص الشرع ، وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى : ( إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ) ؟! ، فهل يمكنهم
أن يقولوا : إن الفروج هي الغافلات المؤمنات ، وكذلك قوله تعالى : (
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ ) ، وقوله تعالى : ( مُحْصَنَات غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كما هو واضح .
ومن
ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد : فإنه لا يشك عاقل أن علة
نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره ، فيلزم على قول الظاهرية : أنه لو ملأ
آنية كثيرة من البول ، ثم صبها في الماء الراكد ، أو تغوط فيه : أن كل ذلك عفو ؛
لأنه مسكوت عنه ، فيكون الله – على قولهم – ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر
البول فيه ، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه ، بصبه فيه من الآنية ، وكذلك
يأذن في التغوط فيها .
وهذا لو صدر من أدنى عاقل : لكان تناقضاً معيباً عند جميع العقلاء ، فكيف بمن ينسب
ذلك إلى الله ورسوله عياذاً بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص ، وربما ظن الإنسان
الأجر ، والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب ، …..
ومن
ذلك : نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء ، مع سكوته عن حكم التضحية
بالعمياء ، فإنه يلزم على قول الظاهرية : أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العوَر خاصة
. فتكون العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به ، فيكون ذلك عفواً ، وإدخال
العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح ؛ لأن المفهوم من العوَر غير المفهوم من
العمَى ؛ لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر ، بخلاف العمَى فلا يطلق في
ذلك ، وتفسير العور : بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة ؛ لأن العمى المقيد
بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معاً ، وبالجملة : فالمعنى المفهوم من لفظ
العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى . فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز
التضحية بالعمياء ؛ لأنها مسكوت عنها .
وأمثال هذا منهم كثيرة جدّاً .
وقصدنا : التنبيه على بطلان أساس دعواهم ، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى
معاني التشريع ، والحكم ، والمصالح التي هي مناط الأحكام ، وإلحاق النظير بنظيره
الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم .
”
أضواء البيان ” ( 4 / 211 – 214 ) .
وننبه إلى أن مبحث الشيخ الشنقيطي رحمه الله في الرد على نفاس القياس من الظاهرية
استغرق عشرات الصفحات ، ولا نستطيع نقل كلامه كله ، فمن أراد زيادة الفائدة فيرجع
إلى كتابه ” أضواء البيان ” ( 4 / 175 – 228 ) .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
![answer](/_next/image?url=%2F_next%2Fstatic%2Fmedia%2Fanswer.91a384f1.png&w=64&q=75)
موضوعات ذات صلة