هل هناك تعارض بين قول الله تعالى وأن تصوموا خير لكم وحديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه ؟
السؤال: 124107
كيف يمكن محو التعارض الظاهر بين قول الله تعالى : ( وأن تصوموا خير لكم )، وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
باب
الرخصة والعزيمة من الأبواب التي تدرس في علم أصول الفقه ، وقد عرف الأصوليون
الرخصة بأنها الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار العباد ، رعاية
لحاجاتهم ، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي
.
قال
الزركشي :
”
هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ” انتهى.
”
البحر المحيط ” (1/262) .
وعرفها
الشاطبي بقوله :
”
هي ما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع ، مع الاقتصار على مواضع
الحاجة فيه ” انتهى.
”
الموافقات ” (1/466)
وأمثلتها : التلفظ بالكفر عند الإكراه ، والأكل من الميتة عند الضرورة ، وغير ذلك .
ثانيا :
بين
العلماء أن الرخص ليست على حكم شرعي واحد ، وإنما تعتريها الأحكام الشرعية المختلفة
:
1-
الوجوب : كالأكل من الميتة عند الضرورة ، فهذه رخصة واجبة : مَن تَرَكَها أَثِم ،
لقوله تعالى : (
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة/195.
2-
الاستحباب والندب : مثاله قصر الصلاة في السفر ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ )
رواه مسلم (رقم/686)
3-
الإباحة : مثاله عقد السلم ، والعرايا ، وهي : بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصا
بالتمر كيلا ، وشبه ذلك من العقود . عن سهل بن أبي حثمة قال : ( نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر ، ورخص في العرايا ، أن يشتري بخرصها ، يأكلها
أهلها رطبا ) رواه أبو داود (رقم/3363) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
4-
خلاف الأولى : كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم
، قالوا : وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى : ( وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/184 ، فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم ،
وهو يتضمن النهي عن تركه ، وما نهي عنه نهيا غير صريح فهو خلاف الأولى ، وقد سبق
بيان هذا الحكم في جواب السؤال رقم :
(20165)
ثالثا :
بناء على ما سبق يتبين أن الرخصة الشرعية تعتريها عدة أحكام ، وليس حكم الندب فقط
كما هو المشهور . وعلى ذلك ، فقوله عليه الصلاة والسلام ، في حديث ابن عباس رضي
الله عنهما : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ
تُؤْتَى عَزَائِمُهُ ) رواه ابن حبان في ” صحيحه ”
(رقم/354)، قال المنذري في ” الترغيب والترهيب ” (1/!47): إسناده حسن. وصححه
الألباني في ” إرواء الغليل ” (3/10).
لا
يعني استحباب كل رخصة على كل عزيمة مطلقا
، بل وجهه العلماء بتوجيهات عدة منها :
1-
أنه خاص في الرخص التي طلبتها الشريعة وحثت عليها ورغبت فيها ، أو في حال ما إذا
كانت العزيمة تسبب مشقة فادحة لا تأتي بمثلها الشريعة ، وليس في كل رخصة يثبت
الاستحباب :
يقول العلامة الشاطبي رحمه الله :
”
قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ) ؛ فالرخص التي هي
محبوبة ما ثبت الطلب فيها ، فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في
مثلها رسول الله, صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر ) ، كان
موافقا لقوله
تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )
البقرة/185، وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) النساء/28،
بعدما قال في الأولى : ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/184، وفي الثانية
: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) النساء/25. فليتفطن الناظر في الشريعة إلى
هذه الدقائق ليكون على بينة في المجاري الشرعيات ” انتهى.
”
الموافقات ” (1/517)
ويقول الشيخ أبو القاسم الأنصاري المعروف بابن الشاط :
”
يمكن أن يحمل – يعني حديث ابن عباس السابق – على أن الرخص التي هي محبوبة
ما ثبت الطلب فيه ، أو ما أدى تركه إلى المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر )، فيوافق قوله تعالى : (
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )، وقوله تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم
)، بعد ما قال في الأولى : (وأن تصوموا خير لكم )، وفي الثانية : ( وأن تصبروا خير
) ” انتهى.
حاشية ” الفروق ” للقرافي (2/139)
2-
وقال بعض أهل العلم : المقصود من الحديث دفع التكبر والترفع عن استباحة ما أباحته
الشريعة ، فهذا هو المذموم ، أن يترفع المسلم عن الترخص بالرخص تنطعا ، ففي هذه
الحالة يحب الله من العبد أن يأتي بالرخص ، كسرا لهذا الكبر ، واعترافا بنعمة الله
تعالى علينا بالتخفيف ، وليس المقصود استحباب الترخص بكل رخصة .
يقول المناوي رحمه الله :
”
لما فيه من دفع التكبر والترفع من استباحة ما أباحته الشريعة ، ومَن أَنِفَ ما
أباحه الشرع ، وترفَّعَ عنه : فَسَدَ دينه ؛ فأمر بفعل الرخصة ليدفع عن نفسه تكبرها
، ويقتل بذلك كبرها ، ويقهر النفس الأمارة بالسوء على قبول ما جاء به الشرع ”
انتهى.
”
فيض القدير ” (2/376)
3-
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود من الحديث تطييب قلوب الضعفاء الذين لا يقدرون
على العزائم ، فواساهم بأنهم يترخصون في الجملة بما يحب الله ، وليس المقصود بيان
أن كل رخصة حكمها الاستحباب .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله :
” –
جاء الحديث – تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط
فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات ، فما أرسل رسول الله صلى
الله عليه و سلم إلا رحمة للعالمين كلهم عليه اختلاف أصنافهم ودرجاتهم ” انتهى.
”
إحياء علوم الدين ” (4/278)
فالحاصل أنه لا تعارض بين الآية والحديث ، لأن كلا منهما يتنزل على حال مختلفة عن
الأخرى .
والله أعلم.
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
موضوعات ذات صلة