تقسيم الأحاديث إلى آحاد ومتواتر لا يعني التشكيك في صحتها
السؤال: 126571
اعتنقت الإسلام والحمد لله ، وبسبب أني أدرس التأريخ والحديث في جامعتي ، فأنا مهتمة بعلم الحديث ، وحسب علمي أن الأحاديث إما صحيح أو ضعيف ، ولكني اكتشفت أن هناك المتواتر والآحاد ، وأن الأحاديث المتواترة قليلة جدًّا ، قد لا تصل إلى عدد مائة حديث ، وأن هذه الأحاديث هي المقطوع بصحتها مائة بالمائة ، أما ما سواها فليس هناك نوع مقطوع بصحته مائة بالمائة ، بما في ذلك الأحاديث الصحيحة ، فهل هذا صحيح أم لا ؟ وإذا كان الأمر هكذا فما هي هذه الأحاديث المتواترة ، ولماذا لا يُؤكد عليها أكثر من غيرها ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
بداية فالشكر لله عز وجل أن أنعم عليك بنعمة الإسلام وهداية الإيمان ، وأن ألهمك
سبحانه سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، فالإسلام دين الأخلاق والقيم ، كما هو دين
الشريعة العادلة والأحكام التي تُصلِح أحوالَ الناس ، وهو الدين الذي أكمل الله به
الرسالات السابقة ، يمتاز أتباعُه بأنهم يؤمنون بجميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فهنيئا لك هذا الباب من السعادة في
الدنيا والآخرة ، واسألي الله دائما الثبات والتوفيق .
ثم
نرحب بك معنا في موقعنا ، وسوف نكون سعداء إذا أرسلت إلينا بما عندك من أسئلة
واستفسارات ، فنرجو ألا تترددي في الكتابة بما عندك .
ثانيا :
وفي
شأن علم الحديث الشريف ، فهو علم غاية في الدقة ، غاية في الإحكام ، دُوِّنَت فيه
آلاف الصفحات ، وبُذلت في سبيله الأرواح والأموال والأعمار ، حتى استطاع المسلمون
الذين أحبوا نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينقلوا أقواله وأفعاله وصفاته
وأحواله لجميع العصور من بعدهم ، حتى نقلوا ضحكاته وسكتاته ، ونقلوا قيامه وقعوده ،
ونومه ويقظته ، نقلوا تفاصيل كثيرة عن هذا النبي العظيم .
ثالثا :
أما
عن تحديد زمن كتابة الأحاديث النبوية ، فهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس بسبب
تحريف بعض المستشرقين للحقائق التاريخية ، فقد ثبت بالأدلة القطعية أن كتابة
الأحاديث وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته ، وأن الذي تأخر هو جمعها
كلها في كتاب واحد ، وترتيبها على الأبواب ، والعناية بتأليفها وتصنيفها ، والأدلة
على ذلك كثيرة جدا ، لا يُنكِرها إلا جاحد معاند يبتغي تشكيك المسلمين بدينهم ، أو
جاهلٌ لا يعرف أن كتابة السنة وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن
تدوينها – بمعنى تأليف الكتب الكبار في جمعها وتصنيفها والعناية بها – هو الذي تأخر
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال :
( كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، وَقَالُوا :
أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، فَأَمْسَكْتُ عَنْ
الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ ) . رواه أبو
داود (3646) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
فانظري كيف أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل شيء يسمعه من النبي صلى الله
عليه وسلم ، حتى جمع من الأحاديث كتابا كبيرا كان يسمى ” الصحيفة الصادقة “، وهي من
أشهر الصحف الحديثية المكتوبة في العصر النبوي ، فهناك صحف – أي كتب – كثيرة كان
الصحابة يكتبون فيها الأحاديث التي يسمعونها من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكثير
منها محفوظ بنصه إلى اليوم ، وما تَبَقَّى رواه لنا الأئمة الكبار كالبخاري ومسلم
في كتبهم ، ومن أراد الاطلاع على جميع ما ورد في ذلك فليرجع إلى ثلاثة دراسات مهمة
في هذا الموضوع ، وهي :
1-
” دراسات في الحديث النبوي “: تأليف الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي.
2-
” تدوين السنة النبوية ” للدكتور محمد مطر الزهراني.
3-
” تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين ” للدكتور حاكم بن عبيسان المطيري . ففي هذه
الكتب شرح مفصل وبيان دقيق لهذه المسألة المهمة ، وقد ذكرنا لك هنا خلاصة الأفكار
التي جاءت في هذه الكتب .
رابعا :
أما
عن فكرة درجة التصديق بما جاء في الأحاديث تبعا لتنوعها بين الآحاد والمتواتر ،
فنحب أن ننبه هنا إلى أنها مسألة تحكمها الاحتمالات والافتراضات العقلية أكثر من
تعلقها بالواقع العملي ، وقواعد العلماء في التصحيح والتضعيف ؛ وعلم الحديث إنما
يقرر القواعد التي نستطيع من خلالها الحكم على الحديث بالقبول أو الرد ، والقبول
بمعنى التصديق بصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه من قوله عليه الصلاة
والسلام ، بغض النظر عن درجة ذلك القبول .
ولكي تتضح الصورة ، نضرب لك مثالا يوضح لك المسألة إن شاء الله ، ويبين لك أن تقسيم
العلماء للأحاديث إلى متواتر وآحاد ، لا يعني الشك في ثبوت أحاديث الآحاد :
إذا
جاءت واحدة من زميلاتك الطالبات فأخبرتك أن المعلمة قد حددت موعدا للاختبار في
اليوم الفلاني ، وأنت لا تشكين في صدق هذه الطالبة ، ولا تشكين في حفظها ونباهتها ،
ألا يكفي ذلك بالنسبة لك لبدء الإعداد لذلك الامتحان والتحضير له ، أوليس خبرها
كافيا أيضا لتوجيه اللوم لك إن قصرت في التحضير للامتحان ، وكل من حولك سواء من
أهلك أو زميلاتك أو معلماتك سيتوجهون إليك بأصابع الاتهام بالتقصير إن أنت لم تحصلي
على علامة جيدة .
هذا
هو معنى كون خبر زميلتك هذه مقبول عندك .
فما
رأيك إذا جاءت صديقة أخرى فأخبرتك الخبر نفسه ! لا شك أن ذلك سيؤكد الخبر بالنسبة
لك، ولكن تأكيد الخبر لا يعني أن خبر صديقتك الأولى لم يكن كافيا ، أو لم يكن مفيدا
، بل هو كاف ومفيد ، ولكن أخبار الصديقات الأخريات عززه وأكده .
فما
رأيك إذا رجعت إلى الجامعة فسمعت من معلمتك نفسها عن موعد الاختبار ، ألا يبلغ قلبك
حينئذ درجة من العلم قد لا يمكن تأكيدها أكثر من ذلك ! فهل هذا يعني أن إخبار
صديقاتك لك لم يكن كافيا بالنسبة لك ، أم أنه كان كافيا ولكن سماعك من معلمتك بلغ
بقلبك مرحلة اليقين .
هذا
هو معنى ما يتكلم به بعض أهل العلم أن حديث الآحاد ليس كالحديث المتواتر ، ونحن
نقول : نعم ، والحديث المتواتر أيضا ليس كالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم
مباشرة ، ولكن ذلك لا يعني أن حديث الآحاد غير مقبول وغير كاف لإقامة الحجة على
العباد ، تماما كما أن كل العقلاء يعرفون أن خبر صديقتك الصادقة الحافظة لك أنها
سمعت المعلمة تحدد موعد الامتحان كاف في إقامة الحجة عليك ، ودفعك للتحضير والدراسة
.
نرجو أن تكون المسألة أصبحت واضحة بهذا المثال .
ثم
نزيد فنقول ، إن ما أشرت إليه من أحاديث البخاري ومسلم ، أو غيرهما ، مما تلقاه أهل
العلم بالقبول ، قد جاء ما يقويها ويؤكدها ويرفعها إلى مرتبة إفادة العلم ، ووجوب
تصديقها ، والعمل بما فيها :
1-
فأكثرها جاء من طرق وروايات وأسانيد كثيرة ، مما يؤكد مضمون الحديث وصدوره عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومن أراد التأكد من ذلك فليرجع إلى الكتب الستة ليرى كيف أن
الحديث الواحد يرويه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وهكذا ، وإن لم يبلغ حد
التواتر .
2-
وكثير من أحاديث الآحاد أجمعت عليها الأمة ، وتلقاها العلماء بالقبول ، من عهد
الصحابة إلى يومنا هذا ، وعملوا بها جميعا ، وهذا أيضا يؤكد ويقوي هذه الأحاديث ،
مثال ذلك الأحاديث الواردة في الصحيحين : البخاري ومسلم ، فما زال العلماء يقبلونها
ويعملون بما فيها ، ومعلوم أن اتفاق العلماء على مر العصور على قبول حديث معين
علامة من علامات تأكيده وقوته .
3-
بل
وكثير من هذه الأحاديث الصحيحة تشهد لها آيات من القرآن الكريم ، وتشهد لها أقوال
الصحابة الكرام ، بل ويشهد لها الواقع والتاريخ أيضا ، فكل هذه مؤكدات ترفع مستوى
التصديق بخبر الآحاد .
وهذه المؤكدات يسميها العلماء ” القرائن “، أي المؤكدات التي تثبت الأحاديث وتؤكدها
، وقد رجح المحققون من العلماء أن حديث الآحاد إذا اقترنت به بعض هذه المؤكدات فإنه
يفيد العلم الذي يفيده الحديث المتواتر .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
”
وأما المتواتر فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور ، بل إذا
حصل العلم عن إخبار المُخبِرين كان الخبر متواترا ، وكذلك الذي عليه الجمهور أن
العلم يختلف باختلاف حال المخبِرين به ، فرب عدد قليل أفاد خبرُهم العلم بما يوجب
صدقهم ، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم ؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد
العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم ؛ وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر
اللفظ عند أهل العلم بالحديث وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر ؛ ولهذا كان أكثر
متون الصحيحين مما يعلَمُ علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قاله ، تارة لتواتره عندهم ، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول ، وخبر الواحد المتلقَّى
بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك ؛ فإنه وإن كان في نفسه لا
يفيد إلا الظن ؛ لكن لمَّا اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق ،
كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكمٍ مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو
خبر واحد ، فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور ، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي
؛ لأن الإجماع معصوم ، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يُجمعون على تحليل حرام ولا
تحريم حلال ، كذلك أهل العلم بالحديث ، لا يُجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب
بصدق ، وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار ، توجب لهم العلم ، ومَن عَلِمَ
ما عَلِمُوه حَصَلَ له مِن العلم ما حصل لهم ” انتهى.
”
مجموع الفتاوى ” (18/40-41) .
وبناء على ما سبق ، فإن الذي يحتاجه المسلم ، وهو الأمر الذي تفضلتِ ـ أختنا
الكريمة ـ بالإشارة إلى أهمية العناية به من المسلمين ، ليس هو ما يطلق عليه ـ
اصطلاحا ـ : الحديث المتواتر ؛ فإن هذا بحث علمي اصطلاحي ، وإنما الذي تريدينه ،
وهو ما ثبت لدى أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، دائرته أوسع من ذلك
بكثير ، كما مر معنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ويدخل في هذه
الدائرة الواسعة ، التي يجب على المسلم العناية بها ، أحاديث الصحيحين : البخاري
ومسلم ، فقد تلقى العلماء هذين الكتابين بالقبول ، واعتمدوا على أحاديثهما .
فإياك أن تظني أن معنى كون الحديث آحادا أنه مشكوك في صحته ، وإياك أن تظني أن
الأحاديث التي تأكدت صحتها يقينا هي المتواتر فقط .
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعتم بهذه الإجابة؟