الإلحاح في الدعاء ليس من الاعتراض على القدر
السؤال: 126946
منذ فترة طويلة تكون لدي حلم ، وهو صعب المنال ، لكن إيماني بقدرة الله هو ما شجعني على السعي إليه بشتى الطرق .. وحتى هذه اللحظة لم يتحقق حلمي رغم دعائي المتكرر ، وفي كل الأوقات ، لأكثر من خمس سنين متواصلة لتحقيقه.. وقد حلمت منذ فترة حلما ، وقرأت تفسيره في كتاب : أنني ربما أتطلع لأمر ولن أناله… الآن لم يزل تعلقي بتحقيق حلمي موجودا ، ولم ولن أيأس من رحمة الله بي ، وأعلم أن التأخير فيه مصلحة لي.. لكنني أتساءل هل أنا ـ بذلك ـ أعترض على الله ؟ هل علي أن أستمر بالدعاء لتحقيق هذا الأمر لي؟ أم أنني من المفترض أن أسلم بتفسير الرؤيا وأتوقف عن الدعاء ، لأن هذا الأمر لن يتحقق ؟ أنا حائرة ولا أعلم إن كان تكراري للدعاء فيه تعدي وعدم إيمان بالقضاء ، وهل وجود أمل في قلبي أن رحمة الله واسعة ، وأن هذا الأمر سيتحقق ، وإن كان متأخرا ، فيه سوء أدب مع الله ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نشكر لك في البداية همتك العالية ، وطموحك نحو تحقيق ما تحلمين به ، ونذكرك مع ذلك
بأمور عدة :
الأمر الأول : ضرورة الأخذ بالأسباب ، فقد خلق الله الدنيا بنظام السبب والمسبب ،
وأوجب على الناس العمل في هذه الدنيا ضمن هذا النظام ، فمن ألغى الأسباب فقد تعدى
على شرع الله وقدره .
الأمر الثاني : الإلحاح في الدعاء مما يحبه الله ويرضاه ، وليس فيه اعتراض على
القدر ، بل هو إصرار على بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة ، والدعاء أحد هذه
الأسباب ، فهو من قضاء الله وقدره ، وهو علامة العبودية ، وأمارة الإيمان .
قال
ابن القيم : ”
ومن أنفع الأدوية : الإلحاح في الدعاء ” انتهى .
” الجواب الكافي ” (ص/25)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ : يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ
يُسْتَجَبْ لِي ) رواه البخاري (6340) ومسلم (2735)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
”
في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء , وهو أنه يلازم الطلب ، ولا ييأس من الإجابة ؛
لما في ذلك من الانقياد ، والاستسلام ، وإظهار الافتقار , حتى قال بعض السلف : لأنا
أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة . وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه :
( من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ) ، الحديث أخرجه الترمذي بسند
لين ، وصححه الحاكم فوهم .
قال الداودي : يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة ، وما
قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى … وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله : اعلم
أن دعاء المؤمن لا يرد ، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة ، أو يعوض بما هو
أولى له عاجلا أو آجلا ، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه ، فإنه متعبد
بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض ” انتهى .
” فتح الباري ” (11/141)
.
الأمر الثالث
، وهو الأهم فيما نريد تنبيهك إليه :
إذا
كان ما تدعين به من أمور الدنيا الفانية ، ومما قد يبتلى به الإنسان في حياته بفقد
، أو مرض أو فقر ونحو ذلك ، فلا نرى لك الحلم به كثيرا ، ولا التعلق القلبي العظيم
بتحقيقه ، فقد خلق الله الدنيا ناقصة اللذات ، لا تصفو لأحد ، فلا تظني في قلبك
أنها تصفو لك ، ولو بكثرة الدعاء ، وهذه لفتة دقيقة أشار إليها العلامة ابن الجوزي
رحمه الله ، كي يستريح من يدعو ولا يستجاب له ، وكي لا يقع المسلم في التسخط في آخر
المطاف ، بل يرضى بالقضاء ، ويحتسب أجره عند الله ، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى
.
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
”
من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف ، فإنه موضوع على عكس الأغراض ، فينبغي
للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض ، فإن دعا وسأل بلوغ غرض ، تعبد الله بالدعاء : فإن
أعطي مراده ، شكر ، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب ؛ لأن الدنيا ليست
لبلوغ الأغراض ، وليقل لنفسه : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ ) البقرة/216 ، ومن أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه ، وربما
اعترض في الباطن ، أو ربما قال : حصول غرضي لا يضر ، ودعائي لم يستجب ، وهذا كله
دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة ، ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر ؟! هذا
آدم ، طاب عيشه في الجنة ، وأخرج منها ، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده ، والخليل
ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفقد الولد ، ويوسف بمجاهدة الهوى ، وأيوب
بالبلاء ، وداود وسليمان بالفتنة ، وجميع الأنبياء على هذا ، وأما ما لقي نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم ، فالدنيا وضعت للبلاء
، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف ، وما
لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا ، كما قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها … صفوًا من الأقذاء والأكدَارِ ” انتهى.
”
صيد الخاطر ” (ص/399) .
الأمر الرابع :
لا
تعولي كثيرا على الرؤى والأحلام ، فهي ظنية الدلالة ، لا يعتمد في تأويلها على ما
في الكتب ، ولا يقبل تأويلها من عابر غير عالم ولا بصير ، فكيف تبنين عليها قرارا
وتتوقفين بسببها عن سعي ونجاح ، بل ننصحك بالتوكل على الله ، والإلحاح في الدعاء
إذا كان في الأمر خير .
والخلاصة
: أن هذا الأمر الذي تحلمين به : إن كان مما يقربك من رضوان ربك وجنته ، ويباعدك من
سخطه وناره : فلا تتركي الإلحاح في الدعاء به ، مع الأخذ بما تطيقينه من الأسباب
لبلوغه ، وإن كان عرضا من الدنيا ، من رزق ، أو مال ، أو إنسان معين ، تريدين
الزواج منه : فلا نرى لك أن تتعلقي به كل هذا التعلق ، سنين طوالا ؛ بل فوضي أمرك
إلى الله ، وانشغلي بما ينفعك ، واسأليه أن يقدر لك الخير في أمرك كله .
وانظري جواب الأسئلة التالية :
(93399) ،
(115945) ،
(117665) .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
موضوعات ذات صلة