قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
السؤال: 138144
أثنى الله عز وجل في سورة آل عمران على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ، وقد أثبت العلم الحديث توافق أشياء كثيرة مع ما ذكر في القران ، ولكن مع هذا هناك بعض الناس من يقول إنه ينبغي أن لا تنزل المكتشفات العلمية الحديثة على الحقائق التي في القرآن ؛ لأن العلم دائماً في تغير مستمر ، بينما القرآن ثابت معجز في كل زمان ومكان ، فقد يكتشف العلم الحديث شيئاً ويسارع الناس لتنزيل هذا المكتشف على ما جاء في القران ، ثم ما يلبث هذا المكتشف أن يثبت عكسه ، فيتأثر بذلك مَن في قلبه مرض .
وقد قرأت مقالات لأحد العلماء يتحدث فيها عن العلم الحديث والقرآن ، وأنه لا يمكن أن يتعارضا مع بعض ، ولكن مع هذا كله ما زال كثير من الناس يصرون على عدم استخدام هذه الحقائق العلمية حتى في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام .
فما هو رأيكم في ذلك ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
النظر في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، هو كغالب القضايا العلمية
والفكرية : يكتنفه طرفان : إفراط وتفريط ، والتوسط بين هذين الطرفين عادة ما يكون
هو الأوفق والأقرب للصواب :
1-فمن الخطأ والتقصير الظاهر عدم الاستفادة من حقائق العلم الحديث في تفسير كثير من
الآيات الكونية في القرآن الكريم ، والأحاديث الصحيحة في السنة المطهرة ، ونحن نؤمن
أن خالق الكون ومنزل القرآن الكريم إله واحد ، فلا بد أن تتطابق التفاصيل الواردة
فيهما ، والعلم الحديث خير معين على كشف هذا التطابق .
2-ومن الخطأ الظاهر أيضا المبالغة في هذا التوجه ، وتحميل الآيات ما لا تحتمل من
أوجه المجاز المخالفة للسياق ، أو المخالفة لما ثبت في السنة المطهرة من تفسير هذه
الآيات ، أو التسرع في عرض الفرضيات والنظريات على أنها حقائق علمية .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
”
الإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره ، لا ننكر أن في القرآن أشياء ظهر بيانها في
الأزمنة المتأخرة ، لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي ، حتى رأينا من جعل
القرآن كأنه كتاب رياضة ، وهذا خطأ .
فنقول : إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي ؛ لأن هذه قد تكون مبنية على
نظريات ، والنظريات تختلف ، فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية ثم تبين بعد
أن هذه النظرية خطأ ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة ، وهذه مسألة خطيرة
جدًّا .
ولهذا اعتني في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات ، وبين
دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها ، لكن علم الكون لم يأتِ على
سبيل التفصيل .
ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي وأن يشتغلوا به عما هو أهم ، إن
الشيء الأهم هو تحقيق العبادة ؛ لأن القرآن نزل بهذا ، قال الله تعالى : ( وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ” انتهى.
”
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ” (26/28) .
وقد
قام كثير من الباحثين والعلماء المعاصرين – جزاهم الله خيرا – بكتابة الأبحاث
العلمية الرصينة المتزنة في هذا الباب ، وقامت لذلك هيئات علمية متخصصة ، ومؤتمرات
دولية ، ومجامع عامة يمكن أن تثمر فيما تثمره تقعيدا مؤصلا منضبطا لقضايا هذا العلم
الجديد ، حتى يصل إلى درجة من الكمال الممكن ، كحال كل علم ينشأ غرسا صغيرا ، ثم
يكبر ويثبت بدراسات العلماء الأفذاذ المتخصصين .
ونحن ننقل هنا بعض الضوابط المهمة للوصول إلى نتائج سليمة في هذا المنهج العلمي :
يقول الدكتور عبد الله المصلح حفظه الله :
”
إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي وفق الأصول
الشرعية المقررة ، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة .
وتكمن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في
القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال
الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع ، وذلك لتميز هذا
العصر بالعلم ومكتشفاته ، حتى أصبح العلم سمة من سماته .
وهذا الاهتمام من غير سير على ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين ،
وإسهاما في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط علها أن تكون مانعا من الوقوع في تلك الأخطاء
، وحافزا للكتابة في هذا الموضوع الحيوي .
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع
التفسير العلمي والمعارضين له ؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر
الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح .
وتلك الضوابط هي :
1- ثبوت
النص وصحته إن كان حديثا ، لتواتر القرآن دون الحديث .
2- ثبوت
الحقيقة العلمية ثبوتا قاطعا ، وتوثيق ذلك علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى
القانون العلمي .
3- وجود
الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه .
فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز .
ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية :
1-جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع ، ورد بعضها إلى بعض لتخرج
بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص ، بل يؤيدها .
2-جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت ، وكذلك روايات الحديث بألفاظها
المختلفة .
3-معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول ونسخ ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا ؟
4- محاولة فهم النص الواقع تحت الدراسة على وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي ، وذلك
لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت ، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام بمسائل تعين على
فهم النص والتمكن من تقديم معنى على آخر ، وهي كالآتي :
أ-إن النص مقدم على الظاهر ، والظاهر مقدم على المؤول .
ب-إن المنطوق مقدم على المفهوم ، وإن المفاهيم بعضها مقدم على الآخر كذلك.
ت-أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة : العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل
والمبين ، وأن العموم مقدم على الخصوص ، والإطلاق مقدم على التقييد ، والإفراد على
الاشتراك ، والتأصيل على الزيادة ، والترتيب على التقديم والتأخير ، والتأسيس على
التأكيد ، والبقاء على النسخ ، والحقيقة الشرعية على العرفية ، والعرفية على
اللغوية .
ث-مراعاة السياق والسباق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده .
ج- مراعاة قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ح- معرفة معاني الحروف ، وعدم تفسير حرف أو حمله على معنى لا يقتضيه الوضع العربي
.
خ- مراعاة أوجه الإعراب ، وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى .
د- أن المشترك اللفظي يمكن حمله على واحد من معانيه دون نفي الآخر أو القطع بأن
هذا الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة .
5- إظهار وجه الإعجاز : فإذا تم ذلك لم يبق على الباحث سوى أن يظهر الربط بين
الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر .
6-أن هناك أمورا من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث .
7-عدم البحث في الأمور الغيبية، كموعد قيام الساعة ، وبداية الخلق ، والجنة والنار.
8-عدم الاعتماد على الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة .
9- الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها ، كأمهات التفسير والحديث وكتب
غريب القرآن والسنة ، مع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت .
10-الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل ؛ لأن
القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر ، والكل يفهم منها بقدر ما يفتح الله عليه ،
وبحسب ما يبذله من جهد وما هو متوفر لديه من وسائل ، ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر
إلى قيام الساعة ، فلا مجال للتسفيه والتجهيل ، وإنما هي الاستفادة والتكميل
والدعاء لمن تقدم ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ) الحشر/10، بل الواجب اتباع فهم السلف رضي الله عنهم ، وخصوصا الصحابة
رضوان الله عليهم ؛ لأنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا
بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصالح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة
الأربعة الخلفاء الراشدين ، وعبد الله بن عباس ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، فهم
العمدة والعدول بخبر الله تعالى ، وعنهم أخذ التابعون ، وعلى نهجهم ساروا ، فمن عدل
عن تفسيرهم إلى ما يخالفه كان مخطئا ، بل ومبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسير كتاب
الله من غيرهم ، وأورع ، وأتقى .
11-ينبغي أن تحصر الدراسة فيما تمكن القدرة عليه ، فالأفراد يمكن أن يقصروا بحوثهم
فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية ، ليصلوا من خلال ذلك إلى
الحق ، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر .
12-ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجال أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله
عليه وسلم صدق وحق ، ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية ؛ لأن منزل القرآن هو
الخالق العالم بأسرار الكائنات ، قال تعالى : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك/14، ومعرفة ذلك تقتضي منا التريث وعدم تحميل النص ما
لا يحتمله من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة ، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن
نتوقف دون نفي أو إثبات ، ونبحث عن موضوع آخر ، والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك .
13-على الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبيين الحق للناس من
أجل هدايتهم ، وأن يعلم خطورة ما يتناوله ، ويعبر عنه ، فهو عندما يقول: هذا المعنى
هو الذي يشير إليه قوله تعالى : فهو يفسر كلام رب العالمين ، لذا يجب عليه أن يتذكر
دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من
النار ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح . (رقم/2950)، وضعفه الألباني في ”
ضعيف الترمذي “.
14-ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر ، مع توفر الكفاءة العلمية المكتسبة ، حتى
يميز الحق من الباطل ، ويقبله ويلتزم بالموضوعية ، ومعناها هنا : حصر المعلومات
ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق ، مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق
والاقتباس والإحالات ” انتهى.
”
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه ” (ص/30-37)
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟