وصلني من كثير من الأخوات إيميل يستدل ببعض أقوال السلف والعلماء كالذهبي على أن جحا كان من التابعين ، وأمه كانت خادمة عند أنس بن مالك رضي الله عنه.. وبالتأكيد الأمر مهم ومفجع ، فإن كان تابعيا فكيف يصور إلى يومنا هذا بالمنظر الهزلي ، وأنه صاحب النكات ..
نرجو التوضيح بارك الله فيكم .
قرأت هذا الموضوع في أحد المنتديات وصدمني فعلا !! والله المستعان ، سأنقل لكم ما هو موثق فيه ..
قال أحدهم : أذكر أن أحد الأفاضل قال لي : إنه يتوقع أن جحا من أهل الجنة، فقلت له: ولم؟ قال : لم يبق أحد من الناس إلا وقد اغتابه وأعطاه شيئا من حسناته !!
تأملت في عبارته كثيراً ودفعتني للبحث عن هذه الشخصية التي لطالما أثارت الجدل والأقاويل ، ثم لما تبين لي أمره رأيت انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم : ” من ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ” رواه أحمد والترمذي ، وحفاظاً على مكانة من عُرف بالإسلام والصلاح ، وإدراك القرون المفضلة أن أعرّف الناس به ، ليحفظوا عرضه ويكفّوا عن ذكره بما لا يليق بمكانته .
الله أكبر !!
قال الحافظ ابن عساكر : عاش أكثر من مائة سنة . وهذا كله تجده مسطوراً في كتاب ” عيون التواريخ ” لابن شاكر الكتبي ( ص 373 وما بعدها ).
وقال الجلال السيوطي : وغالب ما يذكر عنه من الحكايات لا أصل له .
ونقل الذهبي أيضاً في ترجمته له : قال عباد بن صهيب : حدثنا أبو الغصن جُحا – وما رأيت ً أعقل منه .
وأيّاً كان الأمر : فإن كان جحا صالحاً وأدرك بعض الصحابة ويخرج بهذه الصورة فهذا منكرٌ وجرمٌ كبير .
وإن كان من عامة المسلمين فلماذا الكلام فيه ، والكذب عليه ، وتصويره بصورة خيالية ؟ كيف وهو متوفى ؟ وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : ( اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم ) رواه الترمذي .
وهذه دعوة للجميع بالحرص والدقة والتأمّل فيما يُسمع أو يُقال ، وفي الحديث : ( كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع ) رواه مسلم ، وفي وراية :( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) السلسلة الصحيحة .
حكم نسبة النوادر إلى شخصية جحا؟
السؤال: 149883
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
اختلف أهل العلم في حقيقة ” جحا ” الشخصية الهزلية التي تحكى عنها النوادر والظرائف :
القول الأول : جعله بعضهم ” ثابت بن قيس “، كنيته ” أبو الغصن “، توفي سنة (168هـ):
وهذا خطأ ظاهر ؛ فإن ترجمة ثابت بن قيس تدل على شخصية عالمة فاضلة لا تعرف بالسذاجة أو الظرافة المشهورة عن ” جحا ” في التراث العربي .
ولذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله :
” وَهِمَ مَن قال : إن أبا الغصن – ثابت بن قيس المدني – هو جحا ” انتهى.
” سير أعلام النبلاء ” (8/173)
ومما جاء في ترجمة أبي الغصن ثابت بن قيس رحمه الله :
” هو الشيخ ، العالم ، الصادق ، المعمر ، بقية المشيخة ، أبو الغصن ثابت بن قيس الغفاري مولاهم ، المدني . عداده في صغار التابعين .
يروي عن : أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، ونافع بن جبير ، وخارجة بن زيد الفقيه ، وأبي سعيد كيسان المقبري ، والقدماء . ورأى : جابر بن عبد الله – فيما اعترف به أبو حاتم-.
حدث عنه : معن بن عيسى ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وبشر بن عمر الزهراني ، والقعنبي ، وإسماعيل بن أبي أويس ، وجماعة .
وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النوادر .
وقال يحيى بن معين ، والنسائي : ليس به بأس . وقال ابن معين أيضا في رواية عباس : هو صالح ، ليس حديثه بذاك . وروى : أحمد بن أبي خيثمة ، عن يحيى : ضعيف .
قال ابن حبان : هو من موالي عثمان بن عفان . وكان قليل الحديث ، كثير الوهم فيما يروي ، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه . وقال ابن عدي : يكتب حديثه ” انتهى .
” سير أعلام النبلاء ” (7/25-26)
القول الثاني : قال آخرون من أهل العلم : إن ” جحا ” صاحب النوادر هو ” دجين بن ثابت “:
وهو مروي عن يحيى بن معين ، وقرره الشيرازي في ” الألقاب “.
ولكن استنكر المحققون من العلماء هذا القول أيضا :
يقول ابن حبان رحمه الله :
” وهو الذي يتوهم أحداث أصحابنا أنه جحا ، وليس كذلك ” انتهى.
” المجروحين ” (1/294)
ويقول ابن عدي رحمه الله :
” الحكاية التي حكيت عن يحيى – يعني ابن معين – : أن الدجين هذا هو جحا : أخطأ عليه من حكاه عنه ؛ لأن يحيى أعلم بالرجال من أن يقول هذا .
والدجين بن ثابت – إذا روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ، ومسلم بن إبراهيم ، وغيرهم – هؤلاء أعلم بالله من أن يرووا عن جحا ” انتهى.
” الكامل في الضفعاء ” (3/106)
ويقول ابن الصلاح رحمه الله :
” الدجين بن ثابت ، بالجيم مصغرا ، أبو الغصن ، قيل : إنه جحا المعروف ، والأصح أنه غيره ” انتهى.
” المقدمة ” (ص/195) وتابعه عليه أصحاب جميع الكتب المبنية على كتاب ابن الصلاح .
ويقول الإمام الذهبي رحمه الله :
” جحا ، أبو الغصن ، واسمه دجين بن ثابت اليربوعي البصري ، وما أظنه صاحب المجون ، فإن ذاك متأخر عن هذا ، ولحقه عثمان بن أبي شيبة ” انتهى.
” تاريخ الإسلام ” (9/378)
ومما جاء في ترجمة الدجين بن ثابت :
يقول الإمام الذهبي رحمه الله :
” جحا : أبو الغصن ، صاحب النوادر ، دجين بن ثابت ، اليربوعي ، البصري . وقيل : هذا آخر .
رأى دجين أنسا ، وروى عن أسلم ، وهشام بن عروة شيئا يسيرا .
وعنه : ابن المبارك ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو جابر محمد بن عبد الملك ، والأصعمي ، وبشر بن محمد السكري ، وأبو عمر الحوضي .
قال النسائي : ليس بثقة . وقال ابن عدي : ما يرويه ليس بمحفوظ . وروي عن ابن معين قال : دجين بن ثابت هو جحا .
وخطأ ابن عدي من حكى هذا عن يحيى وقال : لأنه أعلم بالرجال من أن يقول هذا ، والدجين إذا روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ، فهؤلاء أعلم بالله من أن يرووا عن جحا.
وأما أحمد الشيرازي ، فذكر في ” الألقاب ” أنه جحا ، ثم روى عن مكي بن إبراهيم قال : رأيت جحا ، الذي يقال فيه مكذوب عليه ، وكان فتى ظريفا ، وكان له جيران مخنثون يمازحونه ، ويزيدون عليه .
قال عباد بن صهيب : حدثنا أبو الغصن جحا وما رأيت أعقل منه . قال كاتبه : لعله كان يمزح أيام الشبيبة ، فلما شاخ أقبل على شأنه ، وأخذ عنه المحدثون .
وقد قيل : إن جحا المتماجن أصغر من دجين ؛ لأن عثمان بن أبي شيبة لحق جحا ” انتهى.
” سير أعلام النبلاء ” (8/173)
القول الثالث : أن اسم جحا هو ” نوح “:
وهذا القول ينسب إلى الجاحظ ، ويقال : إن الجاحظ أقدم من ذكر شخصية ” جحا ” في كتبه ، وذلك في رسالته : ” القول في البغال ” (ص/37)
يقول العراقي رحمه الله :
” ذكر الجاحظ أن اسم جحا نوح والله أعلم ” انتهى.
” التقييد والإيضاح ” (361)
ولم نقف على ترجمة ” جحا ” الذي هو : ” نوح ” في أي من كتب الرجال والتاريخ .
القول الرابع : أن اسم ” جحا ” هو : ” إسحاق “:
يقول ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله :
” وذكر بعضهم أن الأشبه في اسمه إسحاق ” انتهى.
” توضيح المشتبه ” (3/80)
ولم نقف على ترجمة لإسحاق هذا .
ثانيا :
الصواب في أمر ” جحا ” صاحب النوادر والحكايات أنه شخصية مبهمة ، لا يعرف لها ترجمة خاصة ، بل ولا يدرى إن كانت حقيقية أم وهمية ، وهذه الشخصية هي التي ينسب الناس إليها الحكايات الطريفة ، والقصص الظريفة ، وتتناقلها كتب الأدب ، بل هي شخصية عالمية ، لها في كثير من ثقافات العالم أسماء مختلفة ، وتنسب إليها مثل هذه الحكايات .
جاء في ” الموسوعة العربية العالمية “:
” جحا انفصل عن واقعه التاريخي ، وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي الذائعة ” انتهى.
ويقول عباس العقاد رحمه الله :
” شيء واحد ثابت كل الثبوت في أمر جحا .
ذلك الشيء الثابت – قطعا – أنه لم يكن جحا واحدا ، ولا يمكن أن يكونه ؛ لأن النوادر التي تنسب إلى جحا لا تصدر من شخص واحد ، ولا تزال دواعي اليقين باستحالة هذه النسبة واضحة في كل قرينة ، وكل رواية يجوز الاعتماد عليها في تحري الوقائع ومن تنسب إليه .
يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد ؛ لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام ، وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي ، أو عصر تيمورلنك ، أو ما بعده من العصور بأجيال .
ويستحيل أن تصدر عن شخص واحد لاختلاف الشخصيات التي تصورها في مجموعها ، فمنها ما يكون التغفيل فيه من جحا ، ومنه ما يكون فيه جحا صاحب الذكاء النادر والطبع الساخر الذي يكشف عن الغفلة ويتندر على البلاهة ، ومن هذه الشخصيات من تتمثل فيه الحماقة بغير مراء ، ومنها من يتحامق ويبدو في كلامه وتمثيله أنه يتكلف ما يعمل وما يقول استهزاء منه بمن يدعون الحكمة والذكاء .
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تروى عنها ، سواء في الأمكنة أو العادات والأخلاق ، وقد يروى بعضها عن فارس ، ويروى بعضها عن بغداد أو الحجاز أو آسيا الصغرى أو غيرها من البلدان الشرقية .
بل ربما قيل عن جحا إنه نصر الدين التركي ، وقيل عنه إنه أبو الغصن العربي الفزاري ، وقيل عنه إنه من النوكى الهالكين ، كما يقال عنه إنه من أصحاب الحالات والكرامات من المتسترين بالولاية ، وهم يجهرون بالهذر والبلاهة .
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن جحا وحده كائنا ما كان ؛ لأنها تنسب بعينها إلى المجانين من أمثال ” هبنقة “، و ” بهلول ” أو إلى الأذكياء من أمثال ” أبي نواس “، و ” أبي العيناء “.
ويزاد على هذه الحالات جميعا أن طبيعة الفكاهة تختلف بين تحصيل الحاصل ، والقياس مع الفارق ، والمحاولة والمحال ، مما يجوز أن يتفق عرضا في نادرة أو قليل من النوادر ، ولكنه لا يتفق في العشرات والمئات .
ونحن قد نقرأ عن جحا في كتاب واحد ، فنفهم أنه شخص موجود ، أو قابل للوجود ؛ لأنه متناسق الأخبار ، مطبوع في تفكيره وتعبيره على غرار واحد .
ثم نقرأ عنه في كتاب آخر فنرى صاحب الكتاب مضطرا إلى تسويغ نوادره المتناقضة بإسنادها إلى المختلقين والمنتحلين ، أو بافتراء المفترين على جحا للنكاية والتشهير ” انتهى باختصار.
” جحا الضاحك المضحك ” (ص/91-92) .
والحاصل أن نسبة نوادر الظرافة إلى شخصية ” جحا “، سواء كانت ظرافة غفلة أو ذكاء أو غير ذلك : لا بأس فيه ولا حرج ، وليست من الغيبة المحرمة ، فالغيبة ذكر المسلم المعيَّن المعروف بما يكره ، وسبق أن شخصية ” جحا ” أصبحت شخصية رمزية ، وإن كان أصلها شخصية حقيقية ، إلا أنها غير معروفة ولا محددة ، وانتقلت إلى الرمزية الوهمية .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب