0 / 0
81,41704/08/2010

حكم نسبة النوادر إلى شخصية جحا؟

السؤال: 149883

وصلني من كثير من الأخوات إيميل يستدل ببعض أقوال السلف والعلماء كالذهبي على أن جحا كان من التابعين ، وأمه كانت خادمة عند أنس بن مالك رضي الله عنه.. وبالتأكيد الأمر مهم ومفجع ، فإن كان تابعيا فكيف يصور إلى يومنا هذا بالمنظر الهزلي ، وأنه صاحب النكات ..
نرجو التوضيح بارك الله فيكم .
قرأت هذا الموضوع في أحد المنتديات وصدمني فعلا !! والله المستعان ، سأنقل لكم ما هو موثق فيه ..
قال أحدهم : أذكر أن أحد الأفاضل قال لي : إنه يتوقع أن جحا من أهل الجنة، فقلت له: ولم؟ قال : لم يبق أحد من الناس إلا وقد اغتابه وأعطاه شيئا من حسناته !!
تأملت في عبارته كثيراً ودفعتني للبحث عن هذه الشخصية التي لطالما أثارت الجدل والأقاويل ، ثم لما تبين لي أمره رأيت انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم : ” من ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ” رواه أحمد والترمذي ، وحفاظاً على مكانة من عُرف بالإسلام والصلاح ، وإدراك القرون المفضلة أن أعرّف الناس به ، ليحفظوا عرضه ويكفّوا عن ذكره بما لا يليق بمكانته .
الله أكبر !!
قال الحافظ ابن عساكر : عاش أكثر من مائة سنة . وهذا كله تجده مسطوراً في كتاب ” عيون التواريخ ” لابن شاكر الكتبي ( ص 373 وما بعدها ).
وقال الجلال السيوطي : وغالب ما يذكر عنه من الحكايات لا أصل له .
ونقل الذهبي أيضاً في ترجمته له : قال عباد بن صهيب : حدثنا أبو الغصن جُحا – وما رأيت ً أعقل منه .
وأيّاً كان الأمر : فإن كان جحا صالحاً وأدرك بعض الصحابة ويخرج بهذه الصورة فهذا منكرٌ وجرمٌ كبير .
وإن كان من عامة المسلمين فلماذا الكلام فيه ، والكذب عليه ، وتصويره بصورة خيالية ؟ كيف وهو متوفى ؟ وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : ( اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم ) رواه الترمذي .
وهذه دعوة للجميع بالحرص والدقة والتأمّل فيما يُسمع أو يُقال ، وفي الحديث : ( كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع ) رواه مسلم ، وفي وراية :( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) السلسلة الصحيحة .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
اختلف أهل العلم في حقيقة ” جحا ” الشخصية الهزلية التي تحكى عنها النوادر والظرائف :
القول الأول : جعله بعضهم ” ثابت بن قيس “، كنيته ” أبو الغصن “، توفي سنة (168هـ):
وهذا خطأ ظاهر ؛ فإن ترجمة ثابت بن قيس تدل على شخصية عالمة فاضلة لا تعرف بالسذاجة أو الظرافة المشهورة عن ” جحا ” في التراث العربي .
ولذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله :
” وَهِمَ مَن قال : إن أبا الغصن – ثابت بن قيس المدني – هو جحا ” انتهى.
” سير أعلام النبلاء ” (8/173)
ومما جاء في ترجمة أبي الغصن ثابت بن قيس رحمه الله :
” هو الشيخ ، العالم ، الصادق ، المعمر ، بقية المشيخة ، أبو الغصن ثابت بن قيس الغفاري مولاهم ، المدني . عداده في صغار التابعين .
يروي عن : أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، ونافع بن جبير ، وخارجة بن زيد الفقيه ، وأبي سعيد كيسان المقبري ، والقدماء . ورأى : جابر بن عبد الله – فيما اعترف به أبو حاتم-.
حدث عنه : معن بن عيسى ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وبشر بن عمر الزهراني ، والقعنبي ، وإسماعيل بن أبي أويس ، وجماعة .
وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النوادر .
وقال يحيى بن معين ، والنسائي : ليس به بأس . وقال ابن معين أيضا في رواية عباس : هو صالح ، ليس حديثه بذاك . وروى : أحمد بن أبي خيثمة ، عن يحيى : ضعيف .
قال ابن حبان : هو من موالي عثمان بن عفان . وكان قليل الحديث ، كثير الوهم فيما يروي ، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه . وقال ابن عدي : يكتب حديثه ” انتهى .
” سير أعلام النبلاء ” (7/25-26)
القول الثاني : قال آخرون من أهل العلم : إن ” جحا ” صاحب النوادر هو ” دجين بن ثابت “:
وهو مروي عن يحيى بن معين ، وقرره الشيرازي في ” الألقاب “.
ولكن استنكر المحققون من العلماء هذا القول أيضا :
يقول ابن حبان رحمه الله :
” وهو الذي يتوهم أحداث أصحابنا أنه جحا ، وليس كذلك ” انتهى.
” المجروحين ” (1/294)
ويقول ابن عدي رحمه الله :
” الحكاية التي حكيت عن يحيى – يعني ابن معين – : أن الدجين هذا هو جحا : أخطأ عليه من حكاه عنه ؛ لأن يحيى أعلم بالرجال من أن يقول هذا .
والدجين بن ثابت – إذا روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ، ومسلم بن إبراهيم ، وغيرهم – هؤلاء أعلم بالله من أن يرووا عن جحا ” انتهى.
” الكامل في الضفعاء ” (3/106)
ويقول ابن الصلاح رحمه الله :
” الدجين بن ثابت ، بالجيم مصغرا ، أبو الغصن ، قيل : إنه جحا المعروف ، والأصح أنه غيره ” انتهى.
” المقدمة ” (ص/195) وتابعه عليه أصحاب جميع الكتب المبنية على كتاب ابن الصلاح .
ويقول الإمام الذهبي رحمه الله :
” جحا ، أبو الغصن ، واسمه دجين بن ثابت اليربوعي البصري ، وما أظنه صاحب المجون ، فإن ذاك متأخر عن هذا ، ولحقه عثمان بن أبي شيبة ” انتهى.
” تاريخ الإسلام ” (9/378)
ومما جاء في ترجمة الدجين بن ثابت :
يقول الإمام الذهبي رحمه الله :
” جحا : أبو الغصن ، صاحب النوادر ، دجين بن ثابت ، اليربوعي ، البصري . وقيل : هذا آخر .
رأى دجين أنسا ، وروى عن أسلم ، وهشام بن عروة شيئا يسيرا .
وعنه : ابن المبارك ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو جابر محمد بن عبد الملك ، والأصعمي ، وبشر بن محمد السكري ، وأبو عمر الحوضي .
قال النسائي : ليس بثقة . وقال ابن عدي : ما يرويه ليس بمحفوظ . وروي عن ابن معين قال : دجين بن ثابت هو جحا .
وخطأ ابن عدي من حكى هذا عن يحيى وقال : لأنه أعلم بالرجال من أن يقول هذا ، والدجين إذا روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ، فهؤلاء أعلم بالله من أن يرووا عن جحا.
وأما أحمد الشيرازي ، فذكر في ” الألقاب ” أنه جحا ، ثم روى عن مكي بن إبراهيم قال : رأيت جحا ، الذي يقال فيه مكذوب عليه ، وكان فتى ظريفا ، وكان له جيران مخنثون يمازحونه ، ويزيدون عليه .
قال عباد بن صهيب : حدثنا أبو الغصن جحا وما رأيت أعقل منه . قال كاتبه : لعله كان يمزح أيام الشبيبة ، فلما شاخ أقبل على شأنه ، وأخذ عنه المحدثون .
وقد قيل : إن جحا المتماجن أصغر من دجين ؛ لأن عثمان بن أبي شيبة لحق جحا ” انتهى.
” سير أعلام النبلاء ” (8/173)
القول الثالث : أن اسم جحا هو ” نوح “:
وهذا القول ينسب إلى الجاحظ ، ويقال : إن الجاحظ أقدم من ذكر شخصية ” جحا ” في كتبه ، وذلك في رسالته : ” القول في البغال ” (ص/37)
يقول العراقي رحمه الله :
” ذكر الجاحظ أن اسم جحا نوح والله أعلم ” انتهى.
” التقييد والإيضاح ” (361)
ولم نقف على ترجمة ” جحا ” الذي هو : ” نوح ” في أي من كتب الرجال والتاريخ .
القول الرابع : أن اسم ” جحا ” هو : ” إسحاق “:
يقول ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله :
” وذكر بعضهم أن الأشبه في اسمه إسحاق ” انتهى.
” توضيح المشتبه ” (3/80)
ولم نقف على ترجمة لإسحاق هذا .

ثانيا :
الصواب في أمر ” جحا ” صاحب النوادر والحكايات أنه شخصية مبهمة ، لا يعرف لها ترجمة خاصة ، بل ولا يدرى إن كانت حقيقية أم وهمية ، وهذه الشخصية هي التي ينسب الناس إليها الحكايات الطريفة ، والقصص الظريفة ، وتتناقلها كتب الأدب ، بل هي شخصية عالمية ، لها في كثير من ثقافات العالم أسماء مختلفة ، وتنسب إليها مثل هذه الحكايات .
جاء في ” الموسوعة العربية العالمية “:
” جحا انفصل عن واقعه التاريخي ، وتحول إلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي الذائعة ” انتهى.
ويقول عباس العقاد رحمه الله :
” شيء واحد ثابت كل الثبوت في أمر جحا .
ذلك الشيء الثابت – قطعا – أنه لم يكن جحا واحدا ، ولا يمكن أن يكونه ؛ لأن النوادر التي تنسب إلى جحا لا تصدر من شخص واحد ، ولا تزال دواعي اليقين باستحالة هذه النسبة واضحة في كل قرينة ، وكل رواية يجوز الاعتماد عليها في تحري الوقائع ومن تنسب إليه .
يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد ؛ لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام ، وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي ، أو عصر تيمورلنك ، أو ما بعده من العصور بأجيال .
ويستحيل أن تصدر عن شخص واحد لاختلاف الشخصيات التي تصورها في مجموعها ، فمنها ما يكون التغفيل فيه من جحا ، ومنه ما يكون فيه جحا صاحب الذكاء النادر والطبع الساخر الذي يكشف عن الغفلة ويتندر على البلاهة ، ومن هذه الشخصيات من تتمثل فيه الحماقة بغير مراء ، ومنها من يتحامق ويبدو في كلامه وتمثيله أنه يتكلف ما يعمل وما يقول استهزاء منه بمن يدعون الحكمة والذكاء .
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تروى عنها ، سواء في الأمكنة أو العادات والأخلاق ، وقد يروى بعضها عن فارس ، ويروى بعضها عن بغداد أو الحجاز أو آسيا الصغرى أو غيرها من البلدان الشرقية .
بل ربما قيل عن جحا إنه نصر الدين التركي ، وقيل عنه إنه أبو الغصن العربي الفزاري ، وقيل عنه إنه من النوكى الهالكين ، كما يقال عنه إنه من أصحاب الحالات والكرامات من المتسترين بالولاية ، وهم يجهرون بالهذر والبلاهة .
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن جحا وحده كائنا ما كان ؛ لأنها تنسب بعينها إلى المجانين من أمثال ” هبنقة “، و ” بهلول ” أو إلى الأذكياء من أمثال ” أبي نواس “، و ” أبي العيناء “.
ويزاد على هذه الحالات جميعا أن طبيعة الفكاهة تختلف بين تحصيل الحاصل ، والقياس مع الفارق ، والمحاولة والمحال ، مما يجوز أن يتفق عرضا في نادرة أو قليل من النوادر ، ولكنه لا يتفق في العشرات والمئات .
ونحن قد نقرأ عن جحا في كتاب واحد ، فنفهم أنه شخص موجود ، أو قابل للوجود ؛ لأنه متناسق الأخبار ، مطبوع في تفكيره وتعبيره على غرار واحد .
ثم نقرأ عنه في كتاب آخر فنرى صاحب الكتاب مضطرا إلى تسويغ نوادره المتناقضة بإسنادها إلى المختلقين والمنتحلين ، أو بافتراء المفترين على جحا للنكاية والتشهير ” انتهى باختصار.
” جحا الضاحك المضحك ” (ص/91-92) .

والحاصل أن نسبة نوادر الظرافة إلى شخصية ” جحا “، سواء كانت ظرافة غفلة أو ذكاء أو غير ذلك : لا بأس فيه ولا حرج ، وليست من الغيبة المحرمة ، فالغيبة ذكر المسلم المعيَّن المعروف بما يكره ، وسبق أن شخصية ” جحا ” أصبحت شخصية رمزية ، وإن كان أصلها شخصية حقيقية ، إلا أنها غير معروفة ولا محددة ، وانتقلت إلى الرمزية الوهمية .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android