كنت أتحدث مع شخص صوفي ، فقال لي : إن هناك حديثاً في مسند الإمام أحمد يقول :
( اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يظن الناس أنكم مجانين ) فهل هذا حديث بالفعل ، وما صحته ؟
دراسة حديث أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون
السؤال: 151585
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نص هذا الحديث يروى عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُولُوا : مَجْنُونٌ )
رواه الإمام أحمد في ” المسند ” (18/195، 212)، وعبد بن حميد في ” المنتخب من المسند ” (1/102)، وأبو يعلى في ” المسند ” (2/521)، وابن حبان في ” صحيحه ” (3/99)، والطبراني في ” الدعاء ” (ص/521)، والحاكم في ” المستدرك ” (1/677) ، وعنه البيهقي في ” شعب الإيمان ” (2/64) وفي “الدعوات الكبير ” (1/17)، وابن السني في ” عمل اليوم والليلة ” (رقم/4)، وابن شاهين في ” الترغيب في فضائل الأعمال ” (رقم/156) ، وابن عساكر في ” تاريخ دمشق ” (17/220)، والثعلبي في ” الكشف والبيان ” (8/51)، والواحدي في ” الوسيط (3/230).
جميعهم من طريق دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري به .
وقد اختلف أهل العلم في هذا الإسناد على قولين :
القول الأول : أنه إسناد حسن أو صحيح :
قال عثمان بن سعيد الدارمى ، عن يحيى بن معين – في دراج بن سمعان – : ثقة .
قال عثمان : دراج أبو السمح ، ومشرح بن هاعان ليسا بكل ذاك ، وهما صدوقان .
وقال عباس الدورى : سألت يحيى بن معين عن حديث دراج ، عن أبى الهيثم ، عن أبى سعيد ، فقال :
ما كان هكذا بهذا الإسناد فليس به بأس ، دراج ثقة ، و أبو الهيثم ثقة .
وقال ابن شاهين :
ما كان بهذا الإسناد فليس به بأس .
انظر : ” تهذيب التهذيب ” (3/209)
وقد صحح ابن معين هذا الحديث عينه – كما في ” تاريخ ابن معين ” رواية الدوري (4/413) -.
وقال الحاكم رحمه الله :
” هذه صحيفة للمصريين صحيحة الإسناد ، وأبو الهيثم سليمان بن عتبة العتواري من ثقات أهل مصر ” انتهى.
وصححه ابن حبان بإخراجه في ” صحيحه “، ونقل المناوي عن الحافظ ابن حجر تحسينه كما سيأتي نقله في كلام الشيخ الألباني رحمه الله .
القول الثاني : أنه إسناد ضعيف بسبب دراج بن سمعان أبو السمح (ت126هـ)
قال أحمد بن حنبل : حديثه منكر .
وحكى ابن عدى ، عن أحمد بن حنبل : أحاديث دراج ، عن أبى الهيثم عن أبى سعيد : فيها ضعف .
وقال أبو عبيد الآجري ، عن أبي داود : أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم ، عن أبى سعيد .
وقال النسائي : ليس بالقوى . وقال في موضع آخر : منكر الحديث .
وقال أبو حاتم : في حديثه ضعف .
وقال الدارقطني : ضعيف .
وقال في موضع آخر : متروك .
وقال أبو أحمد بن عدي : سمعت محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي ، يقول : سمعت فضلك الرازى – وذُكر له قول يحيى بن معين فى دراج أنه ثقة -، فقال فضلك : ما هو بثقة ، ولا كرامة له .
وروى له ابن عدي أحاديث ، ثم قال :
وعامة الأحاديث التي أمليتها مما لا يتابع دراج عليه – وذكر منها حديث : ( اذكروا الله حتى يقولوا مجنون ) ثم قال : – وسائر أخبار دراج غير ما ذكرت من هذه الأحاديث يتابعه الناس عليها ، وأرجو إذا أخرجت دراجا وبرأته من هذه الأحاديث التي أُنكرت عليه ، أن سائر أحاديثه لا بأس بها ، وتقرب صورته مما قال فيه يحيى بن معين .
انظر : ” تهذيب التهذيب ” (3/209)
ولذلك ضعف هذا ابن عدي في ” الكامل “، والذهبي في ” ميزان الاعتدال ” (2/25)، بل حكما عليه بالنكارة ، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ” السلسلة الضعيفة ” ، وقال :
” وأما الذهبي فقد سقط الحديث من ” تلخيصه ” المطبوع مع ” المستدرك ” فلم يتبين لي هل تعقبه أم أقره ، و الأحرى به الأول لأمرين :
أحدهما : أنه الذي نعهده منه في غير ما حديث من أحاديث دراج التي صححها الحاكم ، فإنه يتعقبه بدراج ، ويقول فيه ” إنه كثير المناكير ”
والآخر : أنه أورد دراجا أبا السمح في ” الميزان ” فقال : ” قال أحمد : أحاديثه مناكير و لينه ، ومنه تعلم أن تحسين الحديث كما فعل الحافظ فيما نقله المناوي عنه غير حسن . والله أعلم ” انتهى.
” السلسلة الضعيفة ” (رقم/517) .
وقال أيضا :
” رأيت الشيخ أحمد الغماري في كتابه ” المداوي” يميل إلى تحسين أحاديث دراج عن أبي الهيثم في ثلاثة مواضع ، منه ( 1/ 278 ) قال فيه : فدراج أبو السمح يعلم أمره صغار المبتدئين في طلب الحديث ، وله نسخة معروفة ، وكثير من الحفاظ يحسنها .
وفي ( 1/ 373 – 374 ) قال في الحديث : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ) ، رداً على المناوي تناقضه فيه : بل هو حسن إن شاء الله ؛ لأن نسخة دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد غايتها الحسن .
وهذا تجاهل منه لقاعدة : ( الجرح مقدم على التعديل مع بيان المسبب ) وهو أن أحاديثه مناكير – كما تقدم عن الإمام أحمد وغيره – ؛ لكن الرجل يتبع هواه ، وينتصر للصوفية والطرقية الرَقَصَة ، ويرد أقوال الحفاظ إذا ما جرحوا أحداً من الرواة الصوفية مثل : ( أبي عبد الرحمن السُلمي )، ومن الدليل على ذلك أنه لما خرج هذا الحديث ؛ نقل تصحيح الحاكم لإسناده مقراً له عليه ، وأتبعه بقوله : وهذا الحديث عظيم الشأن ، جليل المقدار ، يشتمل على فوائد كثيرة ، أوصلها العارف أبو عبد الله محمد بن علي الزواوي البجايي إلى مئة وست وستين فائدة ، في مجلد لطيف سماه : ” عنوان أهل السير المصون وكشف عورات أهل
المجون بما فتح الله به من فوائد حديث : ( اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ) ” وقد قرأته وانتفعت به والحمد لله ! .
قلت – أي الشيخ الألباني رحمه الله – : من هذا الزواوي البجايي ؟ لا شك أنه من غلاة الصوفية الجاهلين بالسنة المحمدية أو المتجاهلين لها ؛ يدلك على ذلك هذا العنوان الذي أقل ما يقال فيه أنه تنطع بارد ؛ فإن مثل هذه الفوائد المزعومة التي تجاوزت المائة لم يذكر أحد – فيما أعلم – هذا العدد ولا قريباً منه في حديث صحيح ، وإنما هو من سخافات الطرقيين الذين وضعوا حديث: ( أذيبوا طعامكم بذكر الله )، ولله درُّ من قال فيهم :
أيا جيل ابتداعٍ شرُّ جيل *** لقد جئتم بأمر مستحيل
أفي القرآن قال لكم إلهي: *** كلوا مثل البهائم وارقصوا لي! ” انتهى.
” السلسلة الضعيفة ” (رقم/7042)
وكذا ضعفه محققو مسند الإمام أحمد طبعة مؤسسة الرسالة (18/195)
وعلى كل حال : فالحث على ذكر الله ذكرا كثيرا ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة :
يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الأنفال/45.
ويقول عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) الأحزاب/41
ويقول سبحانه : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء/227.
وقال جل وعلا : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب/21.
وقال جل ذكره في جملة صفات عباده الصالحين : ( وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (الأحزاب:35)
اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب/35.
ويقول سبحانه وتعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الجمعة/10.
قال ابن القيم رحمه الله :
” قيد الأمر بالذكر بالكثرة والشدة ؛ لشدة حاجة العبد إليه ، وعدم استغنائه عنه طرفةَ عين ، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له ، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله . وقال بعض العارفين : لو أقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنة ، ثم أعرض عنه لحظة ، لكان ما فاته أعظم مما حصله ” انتهى.
” الوابل الصيب ” (ص/89)
وقال أيضا رحمه الله :
” دوام الذكر لما كان سبباً لدوام المحبة , وكان الله سبحانه أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال ، كان كثرة ذكره من أنفع ما للعبد ، وكان عدوُّه حقاً هو الصاد عن ذكر ربه وعبوديته , ولهذا أمر سبحانه بكثرة ذكره في القرآن ، وجعله سبباً للفلاح ” انتهى.
” جلاء الأفهام ” (ص/339)
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب