لديَّ سؤال صغير يتعلق بالموت : فقد سمعتُ من كثيرين : أن كل شخص يموت فى الموعد الذى حدده الله من قبل ، وهذا يعني أن الله قد حدد موعداً معيناً بالفعل لوفاة كل شخص ، وأن الملائكة تقوم حينها بأخذ روحه ، فهل يعني هذا أنه كلما مات شخص فإن أجله يكون قد حان لترك الدنيا ، وهو الأجل الذى حدده الله من قبل بالفعل حتى وإن كان قد مات مقتولاً ، أو جرَّاء حادث ؟ وأنا فى حيرة بالغة من هذا الأمر ، فهل بوسعكم توضيحه ؟
” تقدير انتهاء الأجل ” بين أهل السنَّة والمعتزلة
السؤال: 153438
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
خلق الله تعالى الخلق وقضى لهم آجالهم في ساعة معينة ، وقد أعلم الله تعالى الملَك الذي يأتي الجنين في بطن أمه بهذا الأجل ، فإذا جاء أجلهم – بموت طبيعي أو مرض أو قتل أو حادث – فإنه لا يتقدم عن الموعد ولا يتأخر ، وفي تلك الكتابة الكونية التي لا تتغير قطع على تعلق الناس بغير الله في زيادة عمر أحدٍ أو إنقاصه ، وليس الذي حافظ على صحته قد أطال عمر نفسه ، بل الله تعالى قدَّر له ذلك ، وليس الذي قتلَ أحداً قد أنقص عمر ذلك المقتول ، بل الله تعالى قدَّر ذلك أزلاً ، ويُحاسب القاتل على تعديه على الحكم الشرعي إن كان قتَل بغير حق .
وقالت المعتزلة – وهي من فرق الضلال – : إن الإنسان لو لم يمت بالقتل أو المرض لطال عمره ! وهذا باطل ليس عليه دليل من كتاب ولا سنَّة ، ولا هو قول أحد من أهل السنَّة ، بل قد قدَّر الله أجل كل أحد من خلقه وقدَّر السبب الذي ينتهي به أجله ، وهو أجل واحد ، وهو معلوم لله تعالى ، وقد أعلمه ملائكته التي أمرها بكتابة أجل الإنسان في بطن أمه .
قال الشيخ ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :
” الله سبحانه وتعالى قدَّر آجال الخلائق بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، قال تعالى ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) الأعراف/ 34 والنحل/ 61 ، وقال تعالى ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ) آل عمْران/ 145 .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَدْ سَأَلَتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ أَجَلِهِ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ أَجَلِهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ) .
فالمقتول ميت بأجله ، فعلَم الله تعالى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم ، وهذا بسبب الحرق ، وهذا بالغرق ، إلى غير ذلك من الأسباب ، والله سبحانه خلق الموت والحياة ، وخلق سبب الموت والحياة .
وعند المعتزلة : المقتول مقطوع عليه أجله ، ولو لم يُقتل لعاش إلى أجله ! فكان له أجلان ، وهذا باطل ؛ لأنه لا يليق أن يُنسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه البتة ، أو يجعل أجلَه أحد الأمرين ، كفعل الجاهل بالعواقب .
ووجوب القصاص والضمان على القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور .
وعلى هذا يخرج قوله صلى الله عليه وسلم (صِلَةُ الرَّحِم تَزِيدُ فِي العُمُرِ) أي : سبب طول العمر ، وقد قدر الله أن هذا يصِلُ رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية ، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية ، ولكن قدَّر هذا السبب وقضاه ، وكذلك قدَّر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا ، كما قلنا في القتل وعدمه ” انتهى من “شرح العقيدة الطحاوية” (ص 100 ، 101) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” في شرح قوله تعالى ( ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) : وأما أجل الموت : فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، كما قال في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق – : (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خُلُقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) ، فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يُعلمه الله لمن شاء من عباده ، وأما أجل القيامة المسمى عنده : فلا يعلمه إلا هو ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (14/489) .
وسئل أيضاً رحمه الله : عن المقتول : هل مات بأجله ؟ أم قطع القاتل أجلَه ؟
فأجاب :
” المقتول كغيره من الموتى ؛ لا يموت أحدٌ قبل أجله ، ولا يتأخر أحد عن أجله ، بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال لا تتقدم ولا تتأخر ، فإن أجل الشيء هو نهاية عُمُره ، وعمره : مدة بقائه ، فالعمُر : مدة البقاء ، والأجل : نهاية العمر بالانقضاء ، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ، وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) ، وفي لَفْظٍ (ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) ، وقَد قَالَ تَعَالَى : (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) ، والله يعلم ما كان قبل أن يكون ، وقد كتب ذلك فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن أو ذات الجنب أو الهدم أو الغرق ، أو غير ذلك من الأسباب ، وهذا يموت مقتولاً : إما بالسم وإما بالسيف وإما بالحجر وإما بغير ذلك من أسباب القتل ، وعلْم الله بذلك وكتابتُه له ، بل مشيئته لكل شيء ، وخلقه لكل شيء : لا يمنع المدح والذم ، والثواب والعقاب ؛ بل القاتل : إن قتل قتيلاً أمر الله به ورسوله – كالمجاهد في سبيل الله – : أثابه الله على ذلك ، وإن قتل قتيلاً حرَّمه الله ورسوله – كقتل القطاع والمعتدين – : عاقبه الله على ذلك ، وإن قتل قتيلاً مباحاً – كقتيل المقتص – : لم يُثب ولم يعاقب ، إلا أن يكون له نية حسنة أو سيئة في أحدهما .
والأجل أجلان : ” أجل مطلق ” يعلمه الله ” ، وأجل مقيد ” ؛ وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا وقال : ” إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ” والملك لا يعلم أيزداد أم لا ، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر .
ولو لم يُقتل المقتول : فقد قال بعض القدرية : إنه كان يعيش ! وقال بعض نفاة الأسباب : إنه يموت ! وكلاهما خطأ ؛ فإن الله علم أنه يموت بالقتل ؛ فإذا قدر خلاف معلومه ، كان تقديراً لما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، وهذا قد يعلمه بعض الناس وقد لا يعلمه ، فلو فرضنا أن الله علم أنه لا يُقتل ، أمكن أن يكون قدر موته في هذا الوقت وأمكن أن يكون قدر حياته إلى وقت آخر ، فالجزم بأحد هذين على التقدير الذي لا يكون : جهل ، وهذا كمن قال : لو لم يأكل هذا ما قُدر له من الرزق : كان يموت أو يرزق شيئاً آخر ، وبمنزلة من قال : لو لم يحبل هذا الرجل هذه المرأة هل تكون عقيماً أو يحبلها رجل آخر ؟ ولو لم تزدرع هذه الأرض هل كان يزدرعها غيره أم كانت تكون مواتاً لا يزرع فيها ؟ وهذا الذي تعلم القرآن من هذا لو لم يعلمه : هل كان يتعلم من غيره أم لم يكن يتعلم القرآن ألبتة ؟ ومثل هذا كثير ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (8/516 – 518) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب