كثيراً ما نقرأ في كتب العقائد كلمة ” تسلسل الحوادث ” والكلام على أن له أنواعاً ، فما معنى
هذه العبارة ؟
ماذا يعني مصطلح تسلسل الحوادث ؟
السؤال: 162155
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
” تسلسل الحوادث ” هو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون .
ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة ، ومدلولها ، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها : إليك هذا العرض الموجز .
أ. ” تعريف التسلسل ” :
قال الجرجاني رحمه الله :” التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية ” .
انتهى من” التعريفات ” ( ص 57 ) .
ب. ” سبب تسميته بذلك ” :
سمِّي بذلك أخذاً من السلسلة ؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية ؛ فالمناسبة بينهما : عدم التناهي بين طرفيهما ، ففي السلسلة : مبدؤها ومنتهاها ، وأما التسلسل : فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل .
ج. ” مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة ” : مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام ، وباختلاف المتكلمين ، فقد يكون مرادهم : نفي قِدَمِ اتصاف الله ببعض صفاته ، وقد يكون مرادهم : نفي دوام أفعال الله ومفعولاته ، وقد يكون مرادهم : نفي أبدية الجنة والنار ، وقد يكون غير ذلك .
د. ” هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنَّة ، أو أطلقها أحد من أئمة السلف ” ؟
الجواب : لا .
هـ. ” ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ ؟ ” .
طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة ؛ حيث إنهم يتوقفون في لفظ ” التسلسل ” فلا يثبتونه ، ولا ينفونه ؛ لأنه لفظ مبتدع مجمل ، يحتمل حقّاً وباطلاً ، وصواباً وخطأً .
هذا بالنسبة للفظ .
أما بالنسبة للمعنى : فإنهم يستفصلون ، فإن أريد به حق : قبلوه ، وإن أريد به باطل : رَدُّوه .
وبناءاً على ذلك : فإنه يُنْظَرُ في هذا اللفظ ، وتطبق عليه هذه القاعدة : فيقال لمن أطلقوا هذا اللفظ :
1. إذا أردتم بالتسلسل : دوام أفعال الرب أزلاً – الأزل : هو القِدَم الذي لا بداية له – وأبداً – الأبد : هو المستقبل الذي لا نهاية له – : فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع ، فإثباته واجب ، ونفيه ممتنع ، قال الله تعالى : ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) هود/ 107 .
والفعَّال هو من يفعل على الدوام ، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعَّالاً ؛ فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً .
ثم إن المتصف بالفعل أكمل ممن لا يتصف به ، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له ، وهذا ممتنع .
ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة ، وكل حي فهو فعال ، والله تعالى حيٌّ فهو فعال ، وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً .
ولأن الفرق بين الحيِّ والميتِ الفعلُ ، والله حيٌّ فلا بد أن يكون فاعلاً ، وخُلُوُّه من الفعل في أحد الزمانين الماضي والمستقبل : ممتنع ، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً .
فخلاصة هذه المسألة : أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب : فذلك معنى صحيح ، واجب في حق الله ، ونفيه ممتنع .
ولا يجوز أن يكون تعالى معطَّلاً عن الفعل ثم فعل ، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها ، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن : فذلك معنى باطل لا يجوز .
فالله عز وجل لم يزل متَّصفاً بصفات الكمال : صفات الذات ، وصفات الفعل ، ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها ؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال ، وفَقْدُها صفة نقص ، فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : ” ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليّاً ، كذلك لا يزال عليها أبديّاً ” .
انتهى من” شرح العقيدة الطحاوية ” ( ص 124 ) .
مثال ذلك : صفة الكلام ؛ فالله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، ولم يكن معطَّلاً عنها في وقت ، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً .
وكذلك صفة الخلق ، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطَّلاً عنها .
2- وإذا أريد بالتسلسل : أن شيئاً من المخلوقات المعينة قديم قدم الله تعالى ، فهذا باطل ، فكل سوى الله تعالى مخلوق ، مسبوق بالخالق ، بل مسبوق بعدم نفسه أيضاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة سواء سميت عقولاً ونفوساً أو لم تسم ” انتهى من ” الصفدية ” (1/14).
وقال رحمه الله : ” ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله فإن الله خالق كل شيء وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وإن قيل مع ذلك بدوام كونه خالقا فخلقه شيئاً بعد شيء دائماً لا ينافى أن يكون كل ما سواه مخلوقاً محدثاً كائناً بعد أن لم يكن ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى مساوياً له بل هذا ممتنع بصرائح العقول مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله كما قد بسط في موضعه ” انتهى من ” منهاج أهل السنة النبوية ” (2/210).
3. وإذا كان المقصود بالتسلسل : التسلسل في مفعولات الله عز وجل ، وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق ، إلى ما لا نهاية ، فذلك معنى صحيح ، وتسلسل ممكن ، وهو جائز في الشرع والعقل .
وتسلسل الحوادث أو دوام الحوادث أو المفعولات ، معناه أن نوع الحوادث لم يزل متجدداً وان الله يخلق خلقاً بعد خلق، وكل مخلوق يعني مسبوق بالعدم ، ودوام الحوادث أو المخلوقات في الماضي لا يمنع من كونه تعالى هو الأول كما أن دوامها في المستقبل – كنعيم الجنة – لا يمنع من كونه تعالى هو الآخر .
4. وإن أريد بالتسلسل : التسلسل بالمؤثِّرين ، أي : بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية ، وأن يكون هناك مؤثرون ، كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية : فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً ؛ لاستحالة وقوعه ؛ فالله عز وجل خالق كل شيء ، وإليه المنتهى ، فهو الأول فليس قبله شيء ، وهو الآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فليس فوقه شيء ، وهو الباطن فليس دونه شيء .
والقول بالتسلسل في المؤثرين : يؤدي إلى خُلُوِّ المُحدَث والمخلوق من مُحْدِثٍ وخالقٍ ، وينتهي بإنكار الخالق جل وعلا .
خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً :
أ. أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية ، وأنه سمِّيَ بذلك أخذاً من ” السلسلة ” .
ب. أن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لا بد فيها من الاستفصال كما مر ، لإثبات ما فيها من الحق ، ونفي ما فيها من الباطل .
انتهى من كتاب : ” مصطلحات في كتب العقائد ” للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد ( ص 72 – 76 ) ، باختصار .
وانظر – لمزيد فائدة لما سبق – كتاب : ” الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية ” ، تأليف : الدكتورة آمال بنت عبد العزيز العمرو ، ص 241 .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب