يقول الله تعالى ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ويقول نبينا محمد صلي الله عليه وسلم ( كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ) ، سؤالي : كيف يمكن التوافق بين هذه الآية وهذا الحديث النبوي ؟ وإذا أصبحنا أن نأخذ الآية – وهذا لا شك فيه – إذاً : ما هو درجة صحة الحديث ؟ .
أفيدونا أفادكم الله ، وجزاكم الله خيراً .
حديث ( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ) والجمع بينه وبين قوله تعالى ( فلا أنساب بينهم يومئذٍ )
السؤال: 169669
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
اختلفت أنظار نقَّاد الحديث حول النص المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ سَبَبِي وَنَسَبِي ) فمن قائل بتضعيفه ومن قائل بتحسينه أو تصحيحه.
أما على القول بتضعيفه فلن يكون هناك إشكال في التوفيق بينه وبين قوله تعالى ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) المؤمنون/ 101 ؛ لأنه لا حاجة لذلك بسبب ضعف الحديث ، وأما على القول بقبوله فيحتاج الباحث للتوفيق بينه وبين الآية القرآنية .
ولهذا الحديث روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد رواه الطبراني في ” المعجم الكبير ” ( 3 / 129 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه الطبراني في ” المعجم الكبير ” ( 1 / 124 ) والحاكم في ” المستدرك ” ( 3 / 142 ) والبيهقي في ” سننه ” ( 7 / 114 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ورواه أحمد في ” مسنده ” ( 31 / 207 ) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه ، ورواه أحمد – أيضاً – في ” مسنده ” ( 17 / 220 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
ولكثرة طرق الحديث وتنوع مخارجه حكم عليه ابن الملقن في ” البدر المنير ” ( 7 / 487 -490 ) بالصحة ، ومثله فعل الشيخ الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” ( 2036 ) ، وحكم عليه محققو مسند أحمد بالحُسن بشواهده .
ثانياً:
على القول بأن الحديث مقبول ، صحيح ، أو حسن ، فيقال في بيانه :
1. إن معنى ” النسب ” في الحديث هو ما كان عن طريق الولادة ، ومعنى ” السبب ” هو ما كان عن طريق المصاهرة ، وقد جاء في بعض الروايات ( صهري ) بدلاً من ( سببي ) ، ولذا فقد ذكر الحديثَ طائفةٌ من العلماء في فضائل معاوية رضي الله عنه ، فقد روى الخلاّل في كتابه ” السنَّة ” ( 2 / 432 ) عن عبدالملك بن عبد الحميد الميموني قال : قلت لأحمد بن حنبل أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي ) ؟ قال : بلى ، قلت : وهذه لمعاوية ؟ قال : نعم ، له صهر ونسب ، قال : وسمعت ابن حنبل يقول : ما لهم ولمعاوية ، نسأل الله العافية .
انتهى
2. ليس الحديث في فضل من كان كافراً وله صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، سواء كانت نسباً أو مصاهرة .
3. معنى الحديث أن نسبه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع يوم القيامة ، وهو يعني : أنه يستفيد منه أهله ، ولا شك أن المقصود به هم أهله المؤمنون .
قال ابن كثير – رحمه الله – في ذِكر خصائص نسب النبي صلى الله عليه وسلم – : ” ومن الخصائص : أن كل نسب وسبب ينقطع نفعه وبرُّه يوم القيامة إلا نسبه وسببه وصهره صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) … .
قال أصحابنا : قيل : معناه إنَّ أمته ينتسبون إليه يوم القيامة ، وأمم سائر الأنبياء لا تنتسب إليهم .
وقيل : يُنتفع يومئذ بالانتساب إليه ، ولا يُنتفع بسائر الأنساب ، وهذا أرجح من الذي قبله ، بل ذلك ضعيف ، قال الله تعالى ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) النحل/ 89 ، وقال تعالى ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس، 47 ، في آي كثيرة دالة على أن كل أمَّة تدعى برسولها الذي أرسل إليها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ” . انتهى من ” الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ” ( ص 342 – 344 ) .
4. ولا يتعارض هذا المعنى للحديث – عند من يحسنه أو يصححه – مع الأحاديث التي يُخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته بضرورة العمل والطاعة وأنه لا يَملك لهم شيئاً ؛ لأن المراد بذلك أنه لا يملكه من تلقاء نفسه إلا أن يملِّكه الله تعالى إياه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” الَّذِي يَنْفَع النَّاسَ طاعةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَمَّا ما سوَى ذَلك : فإِنَّه لَا يَنفَعُهُم لَا قَرَابَةٌ وَلَا مُجاوَرةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ ( يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ) – رواه مسلم – ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وَقَالَ ( إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وَمَنْ كَانُوا ) – رواه ابن حبان في ” صحيحه ” – ” . انتهى من ” مجموع الفتاوى ” ( 27 / 435 ) .
والمراد – أيضاً – : أن النسب نفسه لا ينفع صاحبه بذاته إلا أن يكون معه عمل وطاعة ، كما في قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَله لَمْ يُسْرِع بِهِ نَسَبه ) رواه مسلم .
قال النووي – رحمه الله – : ” معناه : مَن كان عمله ناقصاً : لم يُلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال ، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل ” . انتهى من ” شرح مسلم ” ( 17 / 22 ، 23 ) .
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي – رحمه الله – : ” وهذا لا يعارضه حثه في أخبار أُخر لأهل بيته على خوف الله واتقائه وتحذيرهم الدنيا وغرورها وإعلامهم بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً ؛ لأن معناه : أنه لا يملك لهم نفعاً لكن الله يملكه نفعهم بالشفاعة العامة والخاصة ، فهو لا يملك إلا ما ملَّكه ربُّه ، فقوله ( لا أغني عنكم ) أي : بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به ، أو كان [ يعني : ذكر هذا الحديث ] قبل علمه بأنه يشفع .
ولما خفي طريق الجمع على بعضهم : تأوله بأن معناه : أن أمته تنسب له يوم القيامة بخلاف أمم الأنبياء ” . انتهى من ” فيض القدير ” ( 5 / 27 ) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – : ” المراد بنفي الأنساب : انقطاع آثارها التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا ، من التفاخر بالآباء ، والنفع ، والعواطف ، والصلات ، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة ، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه ، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب من أصلها ، بدليل قوله ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ) عبس/ 34 ، 35 ” . انتهى من ” أضواء البيان ” ( 5 / 356 ) .
وعليه : فعند من يرى صحة الحديث يكون معناه عنده أن كل الأنساب تنقطع فائدتها ويتلاشى نفعها مما كان حالها في الدنيا ، فلا ينفع أحدُ أحداً بنسبه إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سيكرمه به ربُّه ؛ حيث سينفع نسبه وصهره بما يشفع لهم من الخير من بعد أن يأذن الله تعالى ويرضى ، وأما أن يكون ذات النسب بدلاً عن الطاعات والأعمال : فهذا مما لا يكون ، والنصوص الواضحة البيِّنة تبين خطأه .
والذي يترجح ، والله أعلم ، أن الحديث ضعيف في إسناده ، وفي متنه نكارة . وللشيخ عثمان الخميس – وفقه الله – كلام متين حول هذا الحديث في كتابه ” الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين جمعا وتخريجا ودراسة وحكما ” وقد خلص فيه إلى تضعيف الحديث فلينظر .
وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم فلا تعلق لها بنسبه ومصاهرته ، وقد نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم على خلَّص أقاربه أنه لا يغني عنهم شيئاً ، وأنهم لن يستفيدوا من نسبهم شيئاً إذا لم يؤمنوا أو لم يعملوا صالحاً ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى صور الناس ولا إلى أجسامهم ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ، وقد أخبر الله تعالى من قبل أن أكرم الناس عنده هم أتقاهم ، وليس مع من يرى صحة الحديث ما يستطيع تعيينه من وجه نفعه صلى الله عليه وسلم لنسبه أو لصهره دون غيرهم ، ولذلك كله – مع ما في الحديث من ضعف آحاد أسانيده – لا يظهر لنا صحة الحديث ، ولا نرى داعياً للجمع بينه وبين الآية الكريمة ، والآية نصٌّ في عدم انتفاع الناس بأنسابهم ، وقد وضحتها الآيات الأخرى بأنهم يفرون من بعضهم بعضاً ، وليس هناك ما يخصص نسباً عن نسب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يُظن بهم الخير ، ويُكرمون لأجل ذلك ، فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك : كانت الحقيقة مقدمة على المظنة ، وأما ما عند الله : فلا يثيب على المظان ولا على الدلائل ، إنما يثيب على ما يعمله هو من الأعمال الصالحة ؛ فلا يحتاج إلى دليل ، ولا يجتزىء بالمظنة ، فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم ، فإذا قُدِّر تماثل اثنين عنده في التقوى : تماثلا في الدرجة ، وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه ، لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى : كان أفضل لزيادة تقواه ، ولهذا حصل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذا قنتنَ لله ورسوله وعملن صالحاً ، لا لمجرد المصاهرة بل لكمال الطاعة ، كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضوعف لهن العذاب ضعفين لقبح المعصية ؛ فإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى ، كان تقواه أكمل من تقوى غيره ” . انتهى من ” منهاج السنة النبوية ” ( 8 / 216 ، 217 ) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب – رحمه الله – : ” قوله ( اشتروا أنفسكم ) أي : بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وعدم الإشراك به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر ؛ فإن جميع ذلك ثمن النجاة والخلاص من عذاب الله ، لا الاعتماد على الأنساب وترك الأسباب ؛ فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب .
ودفع بقوله ( لا أغني عنكم من الله شيئا ) ما عساه أن يَتوهم بعضُهم أنه يُغني عنهم من الله شيئاً بشفاعته ، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه كما قال تعالى ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) : فكيف يملك لغيره نفعاً أو ضرّاً ، أو يدفع عنه عذاب الله ؟! وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة : فهو أمر من الله ابتداء ، فضلاً عليه وعليهم ، لا أنه يشفع فيمن يشاء ، ويدخل الجنة من يشاء ” . انتهى من ” تيسير العزيز الحميد ” ( ص 223 ) .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب