ما حكم قول القائل : ” بذا قضت الأيام ما بين أهلها “، وهل الأيام تقضي .
بارك الله فيكم .
حكم قول المتنبي ( بذا قضت الأيام ) وكذلك قول الشاعر : ( فرب العباد سريع النقم )
السؤال: 171379
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
العبارة المنقولة في السؤال هي شطر من أبيات مشهورة للمتنبي ، فيها حكمة بليغة ، سارت بها الركبان ، واستقرت في الأذهان ، وغدت مثلا على كل لسان ، وذلك في قصيدته التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني ، ويذكر هجوم الشتاء الذي عاقه عن غزو ” خرشنة “، جاء في مطلعها :
عَواذِلُ ذاتِ الخالِ فيَّ حَواسِدُ وَإِنَّ ضَجيعَ الخَودِ مِنّي لَماجِدُ
إلى أن قال:
أخو غزواتٍ ما تغب سيوفهُ … رقابهم إلا وسيحان جامدُ
فَلَم يَبقَ إِلّا مَن حَماها مِنَ الظُبا لَمى شَفَتَيها وَالثُدِيُّ النَواهِدُ
أي : هو مقيم على غزو الروم ، وغزواته متصلة ، لا تؤخر سيوفه رقابهم إلا إذا اشتد البرد وجمد واديهم ، وسيحان نهر هناك معروف ، قتل الروم وأفناهم ، فلم يبق إلا النساء اللواتي منعها من السيوف سواد شفاههن ، ونهود ثديهن ، يعني الجواري .
تبكي عليهن البطاريق في الدجى … وهن لدينا ملقياتٌ كواسدُ
بذا قضت الأيام ما بين أهلها … مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
يريد أنه أسر بنات بطاريق الروم فهم يبكون عليهن ليلا ، وهن ذليلاتٌ عند المسلمين ، هكذا عادة الأيام ، سرور قوم مساءة آخرين ، وما حدث في الدنيا حدث إلا سر به قوم ، وسيء به آخرون . انظر: ” شرح ديوان المتنبي للواحدي ” (ص/233 ترقيم الشاملة آليا)
ثانيا :
قول المتنبي : ” قضت الأيام ” يسميه علماء اللغة ” المجاز العقلي “، وتعريفه عندهم هو : إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له .
يقول الدكتور فضل حسن عباس رحمه الله :
” توضيحا لهذه الجملة نقول :
إذا قلت : ” سال الماء في الوادي “، ” فاض الماء من الكأس “، ” نبت البقل في فصل الربيع “
قف أمام هذه الجمل واحدة واحدة ، تجد أن الإسناد في كل منهما إسناد حقيقي ، فهو إسناد الفعل أو ما يشبهه لما هو له ، ألا ترى أن إسناد ” سال ” و ” فاض ” إلى الماء إسناد حقيقي ؟ ، وإسناد النبت إلى البقل في فصل الربيع كذلك .
ولكن سعة اللغة وفن التعبير يكسبان الكلام زهوا وبهاء ، فيمكننا أن نقول ” فاض الكأس “، ” سال الوادي “، ” أنبت الربيع البقل “، ” أشابتنا الهموم “
في هذه العبارات جميعا نجد أننا أسندنا الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له ، فإن الكأس والوادي لم يسيلا ، ولكن سال الماء الذي فيهما ، ومن هنا كان المجاز … ولكي تتضح لك صورة هذا المجاز نذكر لك مزيدا من الأمثلة : قال تعالى : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) غافر/36، وقال تعالى في شأن فرعون : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) القصص/4.
وإسناد البناء إلى هامان ، والتذبيح والاستحياء إلى فرعون إسناد مجازي علاقته السببية ؛ لأن هامان سبب في البناء ، وهو المشرف عليه ، ولأن فرعون هو السبب في التذبيح والاستيحاء ، والباني في الحقيقة العَمَلَة ، والمذبح والمستحيي هم الجنود .
إن للمجاز العقلي في الكلام لشأنا عظيما ، ولذا فأنت تراه مرتكزا في طبائع الناس ، يعبرون به وإن لم يعرفوا اسمه ، ألا تسمعهم يقولون : فلان أصلحه الزواج وغيَّره المال ، وأنت نجَّتك أمانتك ، وفلان نفعته تقوى والديه ، وهذا رفعَه العِلْم ، وذاك قتله طمعه ، وهذه أشقاها جمالها ، وتلك سما بها خلقها ، وعلَّمنا الاستعمار دروسا لا ننساها ، ويقول بعضهم لبعض : منزلك عامر ، وسفرة دائمة ، إلى غير ذلك من العبارات الكثيرة ، وكلها من المجاز العقلي كما ترى ” انتهى من ” البلاغة فنونها وأفنانها ” (ص/139-143)
والشاهد من هذا كله بيان أن المسلم العربي حين يقول : ” قضت الأيام ” فهو لا ينسب القضاء إلى الأيام على الحقيقة ، وإنما على المجاز العقلي ، والتقدير : قضى الله عز وجل في الأيام ، وليس في ذلك حرج شرعي .
ثالثا :
لهذا الأمر شواهد كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة ، ومن ذلك :
قوله تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) المزمل/17، فتأمل كيف أسند إشابة الولدان إلى يوم القيامة ، مع أن المشيب الحقيقي هو الله عز وجل .
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
” فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة ، اليوم المهيل أمره ، العظيم قدره ، الذي يشيب الولدان ، وتذوب له الجمادات العظام ، فتتفطر به السماء ، وتنتثر به نجومها ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن ” (ص/894)
وأيضا في قوله عز وجل : ( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) هود/84 ، أسند الإحاطة إلى اليوم ، مع أن المحيط هو عذاب الله ، وأما الزمان فلا يحيط بنفسه .
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
” فجعل ( المحيط ) نعتًا لليوم ، وهو من نعت ” العذاب “، إذ كان مفهومًا معناه ، وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم : ” بعْض جُبَّتك محترقة ” انتهى من ” جامع البيان ” (15/445)
وجاء في ” تفسير الجلالين ” (ص/297) :
” ( عذاب يوم محيط ) بكم يهلككم ، ووصف اليوم به مجاز لوقوعه فيه ” انتهى.
رابعا :
تقريرنا للمجاز العقلي في هذا المقام يبين لك الفرق الدقيق بين استعمال المجاز العقلي في مكانه المقبول لدى جميع المسلمين ، وبين الاحتجاج بالمجاز العقلي على صرف العبادة لغير الله تعالى .
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي رحمه الله ( المتوفى سنة 1326هـ ) :
” تحقيق القول في ذلك الباب أنا لا ننكر المجاز العقلي ، ولكن لابد هناك من التفصيل :
وهو أنه إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما يقدر عليه العبد لغير الله تعالى يجب حمله على الحقيقة ، ولا يصح حمله على المجاز العقلي كما في الأمثلة المذكورة .
وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل فلان شفاني ، وفلان رزقني ، وفلان وهب لي ولداً ، يجب حمله على المجاز العقلي .
ولكن لا مطلقاً ، بل متى لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية مما هو كفر بواح ، وشرك قراح .
وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي ، إذ المؤمن بهذا اللفظ والعمل قد انسلخ من الإيمان فلم يبق مؤمناً ، فلا وجه لهذا الحمل ، ولا ريب في أن عبدة الأنبياء والصالحين يصدر منهم من الألفاظ والأعمال ما هو كفر صريح كالسجدة والطواف والنذر والنحر ونحو ذلك ” انتهى من ” صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ” (ص/238)، وللتوسع في هذا الموضوع يمكن مراجعة : “جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية” (2/1021-1029)، ” هذه مفاهيمنا ” للشيخ صالح آل الشيخ (122-138)
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب