كنت أتساءل : ماذا يعنى كون المرء ملعونا من قبل الله ؟! ؛ فهل هناك لذلك مجال مرئي له مذاق وملمس ؟! ، وعندما يكون الشخص ملعونا ، فهل هذا يعنى أن الله يضع الشخص في عالم مجنون وغير معقول ، ويؤذيه ويتحدث إليه ، أم إنها مجرد لعنة بسيطة ، ومجرد قول لا غير ؟! .
وأيضا : أود أن أعرف : إذا كان الشخص ملعونا من الله ، هل هذا يعنى أنه لا يمكنه دخول الجنة ، أو : لن يغفر له الله لأنه ملعون ؟
أنا لدي صديق كان يعيش حياة طيبة إسلامية ، وبدأ يصوم في سن العاشرة ، وتوقف عن ذلك في الخامسة عشرة من عمره ، لأنه بدأ يرافق غير مسلم ، وأخذ يدخن الحشيش ، وبعدها كان يشرب الخمر ، وعندما كان في بلدة أخرى قام بتدخين الحشيش ثانية ، ثم دخل في نفس المدينة في علاقة مع غير مسلمة ، ومارس الجنس وارتكب الزنا ، واستمرت العلاقة حوالي 6 أشهر قبل أن يقطعها ، لأن أخته ووالدته أخبرتاه أنها علاقة حرام وشريرة ، فقال إنه لا يمكنه الاستمرار في العلاقة وتركها وترك أيضا حياة العصابات ، وكنت أتساءل هل يمكن أن يغفر الله له ؟ وما هي عقوبة ذلك إن لم تكن هناك عقوبة أبدية ؟
وأيضا : فإن ذات الشخص بدأ يسمع أصواتا ، وقالت له : هذه الأصوات إنها أرواح ، وبدأ يتحدث مع الله ، وقال له الله : إنه سيغفر له ، لكن يقول له صوت الله أحيانا : إنه لن يغفر له ، ويرى أشياء لا يراها الآخرون ، فهل هو ملعون ؟
وإذا كان كذلك في الدنيا ، فهل يمكن أن يغفر له؟
من فعل ذنوبا تستوجب اللعن هل له من توبة ؟ هل يمكن أن يغفر الله له ؟
السؤال: 175522
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
” اللَّعْنُ : الإِبْعادُ والطَّرْد مِنَ الْخَيْرِ ، وَقِيلَ : الطَّرْد والإِبعادُ مِنَ اللَّهِ ، وَمِنَ الخَلْق السَّبُّ والدُّعاء … وكلُّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَدْ أَبعده عَنْ رَحْمَتِهِ وَاسْتَحَقَّ العذابَ فَصَارَ هَالِكًا “
انتهى من “لسان العرب” (13/ 387-388) .
والملعون إما أن يكون كافرا فهذا مطرود من رحمة الله مبعد عنها إلى عذاب الله .
وإما أن يكون مسلما ولكنه فعل فعلا يستحق عليه اللعن ، كشرب الخمر وأكل الربا وسب الوالدين ونحو ذلك من الذنوب العظام ، فهذا لا يكون إلا في كبائر الذنوب ، ولا يعني ذلك خلوده في النار ؛ لأن من مات من أهل التوحيد على التوحيد والإسلام وإن دخل النار بذنوب فعلها فإنه لا يخلد فيها ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
قال ابن عثيمين رحمه الله :
” اللعن : هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، ولا لعن على فعلٍ إلا من كبائر الذنوب ، ولهذا قال العلماء : كل ذنبٍ كانت عقوبته اللعنة فهو من كبائر الذنوب ” .
انتهى من “دروس وفتاوى الحرم المدني” (ص 57) .
فمن فعل فعلا استوجب كفره ومات على ذلك ولم يتب منه ، فهذا ملعون بمعنى أنه استوجب عذاب الله الخالد ، الذي لا يخرج منه أبدا .
وأما من كان من المسلمين ، ففعل فعلا عظيما استوجب غضب الله عليه ، أو لعنته ، فهذا لم يخرج من الإسلام بمجرد ما وقع منه من الكبيرة ، أو بمجرد حكم الله له باللعنة ؛ بل هو في مشيئة الله تعالى : إن شاء عذبه على ما استوجبه بعمله ، وإن شاء عفا عنه سبحانه بمنه وكرمه ؛ لكنه إذا عذبه عذبه ما شاء أن يعذبه ثم يخرجه من العذاب ، فهذا ليس له العذاب الخالد .
ولا شك أن شرب الخمر والحشيش وفعل فاحشة الزنا من كبائر الذنوب التي تستوجب سخط الله وعذابه ، ولكن من تلبس بشيء من ذلك ثم تاب تاب الله عليه ، شريطة أن يكون صادقا في ندمه وتوبته ، مقلعا عما كان يقترفه من الذنوب والآثام ، دائم الاستغفار مقبلا على الله .
قال الله تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) مريم/ 59، 60 .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) الفرقان/ 68 – 71 .
ثانيا :
لعنة الله تعالى لمن استحق ذلك من عباده ، هي طرده لهذا العبد عن طريق الهدى والرشاد ، وصرفه إلى طريق الغي والفساد ، أو هي كلامه سبحانه بما يستحقه هذا العبد من اللعنة ، وذكره لهذا العبد بلعنته سبحانه وتعالى .
ولا علاقة لهذه اللعنة بعلامة رمزية تظهر على العبد ، أو تظهر له ، كأن ينزل عليه شيء من السماء بمقتضى هذه اللعنة ، أو يظهر شيء في شكله وصورته ، أو يرى شيئا يدله على هذه اللعنة ، أو نحو ذلك من الأوهام ، ولا علاقة لها أيضا بأن يصيبه شيء من الجنون أو الجذام ، أو غير ذلك من الأسقام ؛ فاللعنة حكم شرعي ، يتعلق بدين الرجل في الدنيا ، ومصيره عند ربه في الدار الآخرة ، وربما بدا لك من الشخص أنه من أنعم الناس عيشا ، وأبهاهم صورة ومنظرا ، وهو ملعون عند الله ، مطرود من رحمته . وربما بدا لك من شخص أنه من أقل الناس قدرا ، وأضيقهم عيشا ، وأقلهم حظا ، أو أوحشهم صورة ، ثم هو عند الله من الناجين الفائزين المرحومين .
ثالثا :
الذي يراه صاحبك من أشياء لا يراها غيره ، والذي يسمعه من أصوات تزعم أنها أرواح ، وهذا الذي يأتيه ويقول له أنه الله وأنه سيغفر له ، أو لن يغفر له : كل هذا وأشباهه من تلبيس الشيطان عليه واحتياله وتسلطه ليبعده أكثر عن الله ، وكل ذلك من الباطل الذي لا حقيقة له ، والذي لا أثر له في الحقيقة على من وفقه الله للتوبة والإنابة والرجوع إلى ربه .
وأما صوت الله فلا يسمعه أحد من البشر في الدنيا إلا الأنبياء ، ولا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهكذا لا يرى أحد ربه حتى يموت ، ونراه في الدار الآخرة ، نسأل الله أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم .
وكل ما يجب على صاحبك الآن : أن يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحا : فيقلع عن هذه الذنوب والمعاصي التي أوقعه فيها عدوه اللعين ، وأن يندم على ما فات منه ، وأن يسارع إلى إصلاح اللحظة التي يحياها بطاعة الله تعالى ، والإكثار من الخيرات ، والإقبال على الله بحسن الظن فيه ، والرجاء له ، والرغبة فيما عنده سبحانه ؛ قال الله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر/ 53 .
وروى ابن ماجة (4250) عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ : ( وَسَلَّمَ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ) . حسنه الألباني في “صحيح ابن ماجة” .
قال السندي رحمه الله :
” قَوْله ( التَّائِب مِنْ الذَّنْب ) إِطْلَاق الذَّنْب يَشْمَل الذُّنُوب كُلّهَا ، فَيَدُلّ الْحَدِيث عَلَى أَنَّ التَّوْبَة مَقْبُولَة مِنْ أَيّ ذَنْب كَانَ ، وَظَاهِر الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَة إِذَا صَحَّتْ بِشَرَائِطِهَا فَهِيَ مَقْبُولَة ” انتهى من ” حاشية السندي على سنن ابن ماجه ” ( 2/ 562 ) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
” الذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ ، فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ” إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا ” .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ) .
وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ : أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ، أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ ، أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ، أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا ، أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ ، أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ ، أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ ، أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ ، أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
فَمَنْ أَخْطَأَتْهُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (10 / 45-46) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
” قد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات ، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب ، وقد قال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ، ولكن هذا في حق التائبين خاصة ” انتهى من “الجواب الكافي” (1 / 116) .
فبشر صاحبك بسعة رحمة الله ، وعظيم عفوه ، وفرحه بتوبة عبده وإقباله عليه وإنابته إليه .
فليسارع إلى التوبة وليرجع إلى الله وليترك أهل السوء وليصاحب أهل الصلاح .
راجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (9222) ،(36674) ، (46683) .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة