نريد معرفة الأحكام المترتبة على القراءات الشاذة ، وهل هي كحديث الآحاد ؟
فمثلا قراءة ابن مسعود ( ثلاثة أيام متتابعة ) فهل نقول : إنه يجب أن يكون صوم كفارة اليمين متتابعا لأجل هذه القراءة ؟
الاحتجاج بالقراءة الشاذة
السؤال: 177136
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
القراءة الصحيحة في الأشهر من أقوال العلماء هي : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت المصحف العثماني ولو احتمالاً ، وصح إسنادها ، فإن اختل ركن من هذه الأركان كانت هذه القراءة شاذة .
قال ابن الجزري : ” كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح إسنادها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها .. ومتى اختل ركن من هذه الأركان أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم ، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف .. وهو مذهب السلف الذي لا يعرف من أحدهم خلافه ” .
انتهى من ” النشر في القراءات العشر” (1/9) .
ثانيا :
اختلف العلماء في الاحتجاج بالقراءة الشاذة على أقوال منها :
القول الأول : أنه يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة في استنباط الأحكام الشرعية العملية ، إذا صح سندها .
وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء من الأحناف والحنابلة ، وهو رواية عن الإمامين مالك والشافعي .
انظر : ” نهاية السول ” للإسنوي (2/333) ، و” الإحكام ” للآمدي (1/160) ، و” شرح الكوكب ” لابن النجار (2/138) .
وهؤلاء قالوا : إن القراءة الشاذة تجري مجرى أحاديث الآحاد في العمل بها ، دون القطع بكونها قرآنا ؛ لأنها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يلزم من انتفاء قرآنيتها ، انتفاءُ كونها خبرًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم جاز الاحتجاج بها .
قال ابن عبدالبر : ” الاحتجاج من القراءات بما ليس في مصحف عثمان ، إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها ، جائز عند جمهور العلماء ، وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه ، دون القطع ” انتهى من ” الاستذكار” ( 10/190 ) بتصرف .
القول الثاني : عدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة إذا استقلت بإثبات حكم جديد ، أما إن كانت قراءة بيانية وصح سندها ولم يعارضها خبر أو قياس فيجوز الاحتجاج بها .
قال الزركشي في تحقيق مذهب الشافعي في المسألة : ” إما أن تكون القراءة الشاذة وردت لبيان حكم ، أو لابتدائه ، فإن وردت لبيان حكم ، فهي عنده حجة ، كحديث عائشة في الرضاع وقراءة ابن مسعود : ( أيمانهما ) ، وقوله : ( لقبل عدتهن ) ، وإن وردت ابتداء حكم ، كقراءة ابن مسعود ( متتابعات ) فليس بحجة ..” انتهى من ” البحر المحيط ” (1/388) .
القول الثالث : عدم صحة الاحتجاج بالقراءة الشاذة مطلقًا وهو مذهب الإمام مالك ، وأحد قولي الإمام الشافعي وبعض أصحابه ، والآمدي وابن الحاجب وابن العربي وحكي رواية عن الإمام أحمد.
انظر : ” المستصفى ” للغزالي (1/194) ، و” الإحكام ” للآمدي (1/160) ، و” مختصر ابن الحاجب ” (2/19) ، و ” مختصر الطوفي ” ص46 ، و” شرح الكوكب المنير ” لابن النجار (2/140) .
وهؤلاء قالوا : لا يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن ، وإذا لم تثبت قرآنًا لم تثبت خبرًا ، ومن ثم لا يصح الاحتجاج بها .
قال النووي : ” مذهبنا أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن ، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع ، وإذا لم يثبت قرآنًا لا يثبت خبرًا ” انتهى .
“شرح صحيح مسلم” للنووي (2/420) .
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه لا يشترط في الخبر وصف الراوي له بأنه خبر ، وإنما أخطأ الراوي في تسميته قرآنًا ولا يضر هذا ، بل نجعل القراءة كحديث آحاد صحيح يصح الاحتجاج به .
ورد المخالفون بأن القراءة الشاذة لم تنقل على أنها خبر وقرآن معًا حتى يقال : لا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم ، ومن ثم فلا يلزم من انتفاء قرآنيته انتفاء خبريته ، بل إنما نقل الأخص وهو القرآنية دون الأعم وهو الخبرية ، فبسقوط قرآنيته يسقط الاحتجاج به ، وقالوا : ويحتمل أنه مذهب للصحابي ثم نقله قرآنًا وبذلك تسقط حجيته .
والأظهر – والله أعلم – مذهب الجمهور ، وهو جواز الاحتجاج بالقراءة الشاذة ؛ لأن الناقل لهذه القراءة قد ثبتت عدالته ، ولو نقلها خبرًا لوجب قبول خبره ، ويَبعُد أن تكون هذه القراءة مجرد قول أو مذهب للصحابي ، لأنه من المحال أن يجعل مذهبه قرآنًا .
قال ابن قدامة : ” وقولهم : يجوز أن يكون مذهبًا له ، قلنا : لا يجوز ظن مثل هذا بالصحابة رضي الله عنهم ؛ فإن هذا افتراء على الله وكذب عظيم ؛ إذ جعل رأيه ومذهبه الذي ليس هو عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم قرآنًا ، والصحابة رضي الله عنهم لا يجوز نسبة الكذب إليهم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره ، فكيف يكذبون في جعل مذاهبهم قرآنًا، هذا باطل يقينًا ” انتهى من ” روضة الناظر ” (1/181) .
ثالثا :
بناء على هذا الخلاف في الاحتجاج بالقراءة الشاذة ، وقع الخلاف في وجوب التتابع في كفارة اليمين:
فذهب فريق من العلماء إلى وجوب التتابع اعتبارًا بقراءة ابن مسعود ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، وقياسًا على التتابع في كفارة الظهار .
وذهب الفريق الآخر إلى عدم وجوب التتابع في كفارة اليمين ، لعدم وجود الدليل على اشتراط التتابع ، وردوا استدلال الجمهور بالقراءة الشاذة لابن مسعود بأنها ليست حجة على مذهبهم كما أوضحنا ، ومن جهة أخرى أنه قد ثبت نسخها بما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ” نزلت : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ثم سقطت متتابعات ” .
أورده ابن حجر العسقلاني في ” موافقة الخبر الخبر ” (1/52) وصحّح إسناده .
قال القرطبي : ” قوله تعالى ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) قرأها ابن مسعود ” متتابعات ” فيقيد بها المطلق ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياساً على الصوم في كفارة الظهار ، واعتباراً بقراءة عبد الله ، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريق ؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عُدِما ” .
انتهى من ” تفسير الجامع لأحكام القرآن ” (6/283) .
وقال ابن حجر الهيتمي : ” صح عن عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل ثلاثة أيام متتابعات فسقطت متتابعات ) ، وهو ظاهر في النسخ ، خلافًا لمن جعله ظاهرًا في وجوب التتابع الذي اختاره كثيرون ، وأطالوا في الاستدلال له بما أطال الأولون في رده ” .
انتهى من “تحفة المحتاج في شرح المنهاج ” (4/296) .
وعلى كل حال فالأفضل أن يكون صيام كفارة اليمين متتابعاً ؛ احتياطُا وخروجًا من الخلاف ، وإبراءً للذمة بيقين .
جاء في ” فتاوى اللجنة الدائمة ” (23/22) :
” الأفضل أن يكون صيام كفارة اليمين متتابعاً ، ولكن لو قطع التتابع فلا حرج في ذلك ” انتهى .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ” إن التتابع في صيام كفارة اليمين فيه خلاف بين العلماء ، والأحوط التتابع فيه ، مع العلم أنه لا يعدل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق ” انتهى .
وينظر جواب السؤال رقم (12700) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة