0 / 0
117,81304/07/2012

الجمع بين قوله تعالى ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) وبين قوله تعالى ( وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ )

السؤال: 178756

قال الله تعالى في سورة البقرة : "لا إكراه في الدين"، وهذه قاعدة شرعية معروفة ، لكننا نجد في سورة النمل أن نبي الله سليمان عليه السلام أرسل رسالة إلى بلقيس يهددها ويجبرها على الإسلام وهذا فيما يبدو لي ينافي القاعدة العامة ، فما توجيه ذلك ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
قول الله تعالى : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) البقرة/ 256 ، لا ينافي الأمر بقتال المشركين الذين يصدون عن دين الله ، ويفسدون في الأرض ، وينشرون فيها الكفر والشرك والفساد ؛ فقتالهم من أعظم المصالح التي بها تعمر الأرض ويعم أهلها الأمن والاستقرار . كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) الأنفال/ 39 .
وقد جاءت الشريعة بتحقيق المصالح وتعطيل المفاسد .
والمعنى في الآية : أن لتمام وضوح الدين وتبيُّن معالمه وظهور آياته البينات وحججه القاطعات لا يحتاج الأمر فيه إلى إكراه ؛ فمن تبينت له حقيقته ولم يعاند ولم يستكبر أسلم طواعية ، وإنما يكره الدخول فيه من كابر وعاند ولم يرض بالله ربا ولا بنبيه رسولا ولا بكتابه إماما ؛ ولذلك يقاتل من يقاتل من المشركين على دينهم الباطل استكبارا في الأرض وإرادة للفساد والكفر .
ولا أدلّ على ذلك من دخول الناس في صدر الإسلام في دين الله أفواجا هذا الدين الذي قُتل باسمه آباؤهم وأقرباؤهم وأخلاؤهم .
فكثير من الصحابة أسلم بعد أن كان يقاتل على الكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبي سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم كثير رضي الله عنهم ، وإنما أسلموا لما تبين لهم الرشد من الغي ، واتضحت لهم معالم الدين وحججه القاهرة فأسلموا طوعا وصاروا في جند الله بعد أن كانوا في حزب الشيطان وجنده .
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس/ 99 ، " أي: لا تقدر على ذلك ، وليس في إمكانك ، ولا قدرة لغير الله على شيء من ذلك " انتهى من " تفسير السعدي" (ص 374) .
قال ابن جزي رحمه الله :
" ( لا إكراه في الدين ) المعنى : أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته ، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه ، دون إكراه ويدل على ذلك قوله : ( قد تبين الرشد من الغي ) أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي ، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه " انتهى من "التسهيل" (ص 135) .
وقال السعدي رحمه الله :
" هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح ، ودين الحق والرشد ، فلكماله وقبول الفطرة له ، لا يحتاج إلى الإكراه عليه ؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ، ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته ، وإلا فمن جاءه هذا الدين ، ورده ولم يقبله ، فإنه لعناده .
فإنه قد تبين الرشد من الغي ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة ، إذا رده ولم يقبله ، ولا منافاة بين هذا المعنى، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد ، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين ، وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي والجهاد الفعلي ، فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد، فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف، لفظا ومعنى، كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة ، كما نبهنا عليه " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 954) .
وقال أيضا :
" ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) يعني : وإذا تبين هذا من هذا لم يبق للإكراه محل ، لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفية ، فأما أمر قد اتضح أن مصالح وسعادة الدارين مربوطة ومتعلقة به ، فأي داع للإكراه فيه ؟.
ونظير هذا قوله تعالى: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) الكهف/ من الآية29 ، أيْ هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقِّيَّته فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " انتهى من "القواعد الحسان" (ص 119) .

وقال الزرقاني رحمه الله :
" أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس ، ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة ، ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده ، وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله " .
انتهى من "مناهل العرفان" (2 /406) .

وذهبت طائفة من أهل العلم أن هذه الآية خاصة بأهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس ؛ فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام ؛ لقول الله عز وجل : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة/ 29 .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن ، فأسلم : لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا " انتهى من "المغني" (10 /96) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فلا يصح كفر المكره بغير حق ، ولا إيمان المكره بغير حق ؛ كالذمي الموفى بذمته ، كما قال تعالى فيه ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) بخلاف المكره بحق ، كالمقاتلين من أهل الحرب ، حتى يسلموا إن كان قتالهم إلى الإسلام ، أو إعطاء الجزية ، إن كان القتال على أحدهما " انتهى من "الاستقامة" (2 /320) .
وينظر جواب السؤال رقم : (165408) .

والمقصود أن الآية لا تعني إجبار الناس على الدخول في دين الله قهرا وقسرا ، ولكن تعني أن الإسلام سهل بيّن لا إكراه في الدخول فيه ؛ فمن دخل فيه كان من أهله ، ومن لم يدخل فيه فإما أن يكون من أهل الذمة والعهد ، فهذا له ذمته وعهده ، وعليه دفع الجزية ، وإما أن يكون من المحاربين ، فهذا لا بد من محاربته وقتاله لئلا يفسد في الأرض ، وينشر بها الكفر والفساد .
ثانيا :
قول الله تعالى عن نبيه سليمان عليه السلام : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) النمل/ 37 لا ينافي ما تقدم ، فنبي الله سليمان عليه السلام كان قد ملك الأرض ، كما قال مجاهد رحمه الله : " ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ونمرود بن كنعان ، لم يملكها غيرهم " "تفسير الطبري" (5 /433) .
والملك لا بد أن تكون له الطاعة ، وخاصة إذا أمر بما فيه الصلاح والخير كله للعباد وللبلاد من الإيمان بالله ونبذ الكفر ، فلا يجوز لأحد أن يخالفه في ذلك ، ومن خالفه وجب قتاله ؛ لأنه يفسد المملكة وينشر الكفر والفساد في الأرض ويطيعه على ذلك غيره من الناس .
ثم إنه ليس في الآية إكراه ملكة بلقيس ولا غيرها على الإسلام ، وإنما فيها قتالها هي وجندها ، وهي إنما أسلمت طواعية ، لما رأت الآيات العظيمة التي أجراها الله على يديه ، لا خوفا من القتال والسيف ؛ كما في قوله تعالى : ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) النمل/ 44 .
وقد علم مما تقدم أن الأمر بالقتال لا يعني الإكراه على الإسلام .
ثالثا :
إذا افترضنا أنه هذه القصة تضمن إكراه سليمان عليه السلام ، لملكة سبأ ومن معها على الدخول في شريعته التي أرسله الله بها ، كان هذا خاصة بشرع سليمان عليه السلام ، وقد اختلف حكمه في شرعنا ؛ وقد قال الله تعالى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) المائدة/ 48
قال السعدي رحمه الله :
" وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 234) .

ثم إن هذا الحكم ، الذي هو إقرار الذمي على دينه وذمته ، وعدم إكراهه على الدخول في دين الله ، سوف يتغير في آخر الزمان ، حينما ينزل عيسى عليه السلام ، فيضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام ، فيكثر الخير وتعم البركة الأرض ، وهو مما يدل على أن قتال المشركين الصادين عن دين الله من أعظم أسباب حصول الخير والبركة لعامة الناس وخاصتهم .
روى البخاري (2222) ومسلم (155) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ) .
قال النووي رحمه الله :
" قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَيَضَع الْجِزْيَة ) الصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلهَا وَلَا يَقْبَل مِنْ الْكُفَّار إِلَّا الْإِسْلَام ، وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَة لَمْ يَكُفّ عَنْهُ بِهَا ، بَلْ لَا يَقْبَل إِلَّا الْإِسْلَام أَوْ الْقَتْل . هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى .
فَعَلَى هَذَا : قَدْ يُقَال : هَذَا خِلَاف حُكْم الشَّرْع الْيَوْم ؛ فَإِنَّ الْكِتَابِيّ إِذَا بَذَلَ الْجِزْيَة وَجَبَ قَبُولهَا وَلَمْ يَجُزْ قَتْله وَلَا إِكْرَاهه عَلَى الْإِسْلَام ؟
وَجَوَابه : أَنَّ هَذَا الْحُكْم لَيْسَ بِمُسْتَمِرٍّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، بَلْ هُوَ مُقَيَّد بِمَا قَبْل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِنَسْخِهِ وَلَيْسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ النَّاسِخ ، بَلْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّن لِلنَّسْخِ ؛ فَإِنَّ عِيسَى يَحْكُم بِشَرْعِنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاع مِنْ قَبُول الْجِزْيَة فِي ذَلِكَ الْوَقْت هُوَ شَرْع نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (34770) .

والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android