بعض الآراء تقول بأن القرآن نزل في ليلة واحدة ، وبعضها يقول بأن القرآن نزل في سنين في مكة والمدينة ، هل هذه الآراء تخالف بعضها بعضاً ؟ هل فيها واحد صحيح والآخر خطأ ؟ هل الاثنان خطأ ؟
هل نزل القرآن جملة واحدة أم مفرَّقاً ؟
السؤال: 180883
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
هذه المسألة المذكورة فيها طرفان ، أحدهما متفق عليه ، والآخر مختلف فيه .
أما الطرف المتفق عليه ، فهو أن القرآن لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء جملة واحدة ، بل كان ينزل الوحي به من عند الله ، مفرقا حسب الحوادث والأحوال .
وقد جاءت الآيات تقرر ذلك بوضوح تام لا لبس فيه ، وتقرر حكمة النزول على تلك الصفة :
1. قال تعالى ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان/ 32 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – : " لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينةً وثباتاً ، وخصوصاً عند ورود أسباب القلق ؛ فإن نزول القرآن عند حدوث السبب ، يكون له موقع عظيم ، وتثبيت كثير ، أبلغ مما لو كان نازلاً قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه .
( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) أي : مهلناه ودرجناك فيه تدريجاً ، وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث جعل إنزال كتابه جارياً على أحوال الرسول ومصالحه الدينية " انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 582 ) .
2. قال تعالى ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء/ 106 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – : " ( عَلَى مُكْثٍ ) على مهل ، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ويستخرجوا علومه .
( وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزيلاً ) شيئًا فشيئًا مفرَّقًا في ثلاث وعشرين سنَة " .
انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 468 ) .
ومما يؤكد نزول القرآن مفرَّقاً : انقطاع الوحي في حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها بالزنى ، وقد انتظر النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن ؛ لعظيم وقع المصيبة بتهمة زوجه حتى نزل قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النور/ 11 .
ومما يؤكد نزول القرآن مفرَّقاً – أيضاً – : الآيات الأولى من سورة " عبس " ؛ وذلك عندما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليم ابن أم مكتوم الأعمى طمعاً في إسلام كبار قريش.
ثانياً:
وأما الذي وقع الخلاف فيه ، فهو أول وأصل نزول القرآن : هل نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا ، ثم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم مفرقا ، أو كان نزوله على صفة واحدة ، مفرقا حسب الوقائع ، كما سبق .
وسبب ذلك الخلاف هو فهم بعض الآيات التي تدل على نزول القرآن في وقت واحد ، مثل قوله تعالى ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) البقرة/ 185 ، وقوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر/ 1 ، مع تصريح ابن عباس رضي الله عنه بذلك الفهم .
وقد اختلف العلماء في هذا النزول على أقوال أشهرها قولان :
أولها : وهو قول الأكثر : أن القرآن قد نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملةً واحدة ، ثم نزل بعد ذلك منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة .
عن ابن عباس في قوله ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر ، وكان الله عز وجل يُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في أثر بعض ، قالوا ( لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) .
رواه النسائي في " السنن الكبرى " ( 6 / 519 ) ، والأثر له ألفاظ متقاربة ، ومخارج متعددة ، ولذلك صححه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 9 / 4 ) وغيره .
القول الثاني : أنه ابتُدئ إنزال القرآن في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجَّما في أوقات مختلفة حسب الحوادث والوقائع وحاجات الناس ، وبه قال التابعي الجليل الشعبي .
وهذا الخلاف – كما ترى – ليس له كبير أثر في واقع تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل إن هذا التنزيل سببه إظهار كرامة القرآن وعظيم منزلته في العالَم العلوي .
قال بدر الدين الزركشي – رحمه الله – : " فإن قيل : ما السر في إنزاله جملة إلى السماء ؟
قيل : فيه تفخيم لأمره وأمر مَن نزل عليه ، وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم " .
انتهى من " البرهان في علوم القرآن " ( 1 / 230 ) .
ثالثا :
ملك الوحي الذي ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم ، جبريل عليه السلام ، إنما كان يسمعه من رب العزة جل وعلا ، ثم يُلقيه على النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعه بأذنه ويعيه قلبُه ، قال الله تعالى ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) النمل / 6 ، وقال تعالى ( وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) الأعراف / 203 ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا فَيُصْعَقُونَ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ فَيَقُولُونَ يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ فَيَقُولُ الْحَقَّ فَيَقُولُونَ الْحَقَّ الْحَقَّ ) رواه أبو داود ( 4738 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : " فإن كونه – أي : القرآن – مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله … ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه :
– وساقها – " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 12 / 127 ، 128 ) .
نرجو أن تكون الفكرة واضحة بقدر كاف ، ونرجو أن يبقى التواصل بيننا دوماً إذا بقي لديك شيء من الإشكال حول هذه المسألة ، أو رأيتَ حاجة للاستفسار عن أمر من أمور ديننا الحنيف ، ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه صلاح دنياك وآخرتك .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب