هل تطوير العلوم الفقهية وتجزئة الأبواب الفقهية تعد " بدعة حسنة " ، بالإضافة إلى تقسيم الحديث إلى ضعيف وحسن وصحيح … إلخ ، فهل تصنيف هذه الأشياء يعد " بدعة حسنة " ؟
هل تقسيم العلوم وتصنيفها بدعة حسنة ؟
السؤال: 183220
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
تقسيم العلوم وتفريعها والبناء عليها كلها من العمليات العقلية التي تتقدم بتقدم الزمان ، وزيادة العلوم ، وبلوغ الغاية في التحقيق فيها ، فالعلم تاريخ إنساني تراكمي .
وقد مثلت عملية جمع المصحف الشريف في عهد الخلافة الراشدة ، ثم تصنيف السنة النبوية في مصنفات جامعة في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ت101هـ ) النواة الأولى لبناء العلوم الشرعية ، وتقسيمها ، وتبويب مصنفاتها ، بل وفي الصحائف الأولى التي كتبت في العهد النبوي وعهد الصحابة والتابعين : ما يدل على بدايات تقسيم الكتب الفقهية إلى فروع وأبواب ، ومن أشهرها الوثيقة الدستورية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها بينه وبين يهود المدينة والمهاجرين والأنصار ، وكتاب " الصدقات " الذي كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولمن أراد الاطلاع عليها بتوسع يمكنه مراجعة كتاب " تاريخ تدوين السنة " للدكتور حاكم المطيري .
وقد ذكر الذهبي طبقةً من العلماء تبدأ بـمكحول (ت113هـ) ، والزهري (ت124هـ)، وتنتهي بربيعة بن عبدالرحمن (ت136هـ) – وهم من تلاميذ الصحابة – فقال عنهم : " وشرع الكبار في تدوين السنن وتأليف الفروع وتصنيف العربية ". فالتأليف – بمعناه الدقيق – بدأ في آخر القرن الأول .
وهو مخرج على قاعدة " المصالح المرسلة " التي أخذ بها الفقهاء في كل مصلحة حادثة تظهر حاجة الأمة إليها ، ولا يرد في نصوص الشريعة أمر خاص بها ، فكان هذا الباب أحد أهم أسباب المرونة في التشريع الإسلامي ، وواحدا من أكثر الموارد الفقهية حاجة إليها عبر العصور المختلفة .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله – بعد ذكر صور من المصالح المرسلة واشتباهها على بعض الناس بالبدع – : " جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة . والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعود ذلك بقدح على ما نحن فيه .
أما جمع المصحف ، وقصر الناس عليه ، فهو على الحقيقة من هذا الباب … فحقٌّ ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة ؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن ، من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل بالإبطال ، كمسألة المصحف ، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح .
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة أصل كتابة العلم ، ففي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( اكتبوا لأبي شاه )، وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره … وأيضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به ، إذا تعين لضعف الحفظ ، وخوف اندراس العلم ، وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر ، لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم بدعة فإما متجوز ، وإما غير عارف بوضع لفظ البدعة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع .
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين ، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه ، وإذا ثبت اعتبارها في صورة : ثبت اعتبارها مطلقا ، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع "
انتهى باختصار من " الاعتصام " (1/316-319) .
ثانيا :
أما تسمية ذلك بأنه " بدعة حسنة " ففيه تفصيل واحتمالان :
الاحتمال الأول : إذا كان المقصود بإطلاق " البدعة " المصطلح الشرعي الذي ورد ذمه في الكتاب والسنة ، خاصة في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ) رواه مسلم (867) فلا يصح تسميتها بأنها " بدعة حسنة "، فوصف الحُسن يتناقض مع الذم الثابت بالأدلة الشرعية .
وهذا مقتضى قول من أنكر تقسيم البدعة إلى سيئة وحسنة كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" إذا ظن ظانٌ أن هذه بدعة ، وأنها حسنة ، فهو مخطئٌ في أحد الوجهين :
إما أنها ليست ببدعة ، وهو يظن أنها بدعة ، كما لو قال : تصنيف السنة وتبويبها هذا بدعة ، لكنه بدعةٌ حسنة ، أو قال : بناء المدارس بدعة ، لكنه بدعةٌ حسنة ، أو ما أشبه ذلك .
نقول : أنت أخطأت في تسمية ذلك بدعة ؛ لأن فاعل ذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بنفس الفعل ، لكن يتقرب إلى الله بكونه وسيلةً إلى تحقيق أمرٍ مشروع ، فتصنيف الكتب مثلاً وسيلة إلى تقريب السنة وتقريب العلم ، فالمقصود أولاً وآخراً هو السنة وتقريبها للناس ، وهذا التصنيف وسيلة إلى قربها إلى الناس ، فلا يكون بدعةً شرعاً ؛ لأنك لو سألت المصنف قلت : تصنف هذا الكتاب على أبواب وفصول تتعبد إلى الله بهذا التصنيف ، بحيث ترى أن من خالفه خالف الشريعة ؟ أو تتقرب إلى الله تعالى بكونه وسيلةً إلى مقصودٍ شرعي ، وهو : تقريب السنة للأمة ؟ سيقول : إني أقصد الثاني ، لا أقصد الأول .
وبناءً على هذا نقول : إن تصنيف الكتب ليس ببدعةٍ شرعية .
كذلك أيضاً بناء المدارس للطلاب ، هذا أيضاً ليس موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكنه وسيلةٌ إلى أمرٍ مقصودٍ للشرع ، وهو : القيام بمعونة للطالب ليتفرغ للعلم ، فهو ليس في ذاته عبادة ، ولكنه وسيلة .
ولهذا تجد الناس يختلفون في بناء المدارس ، بعضهم يبنيها على هذه الكيفية ، وبعضهم يبنيها على هذه الكيفية ، ولا يرى أحد الطرفين أن الآخر مبتدعٌ ؛ لكونه أتى بها على وجه مخالف للمدرسة الأخرى ؛ لأن الكل يعتقد أن هذه وسيلة ليست مقصودةً لذاتها ، إذاً هذا ليس ببدعة ، لكنه وسيلةٌ إلى عملٍ مشروع " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (4/ 2، بترقيم الشاملة آليا).
ويقول أيضا رحمه الله :
" هذه الأشياء إن فعلها فاعلها على وجه القربة والتعبُّد فإنها بدعة وضلالة ، وإن كانت من باب الوسائل إلى أمر مشروع كتصنيف العلوم ، وطباعة الكتب ونحو ذلك فهي مشروعة مشروعية الوسائل " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (17/ 380) .
الاحتمال الثاني :
أما إذا كان المقصود بأنها " بدعة حسنة " على سبيل الاصطلاح الخاص ، بتسمية السنن الحسنة أو المحدثات الحسنة " بدعة "، اعتبارا بالمعنى اللغوي العام للبدعة ، فلا بأس في ذلك ولا حرج ، كما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ ) رواه البخاري (2010)، وكما قرر كثير من الفقهاء والعلماء كالشافعي والعز بن عبدالسلام والنووي وغيرهم تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، ولهذا قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع : فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/128).
فإذا فُهِم مَوْرِد التقسيم واعتباره ، كما سبق بيانه : تبين أن الخلاف لفظي في المسألة ، على الأقل ، على مستوى الدرس الاصطلاحي فقط .
يقول أبو شامة المقدسي رحمه الله :
" مما يعد أيضا من البدع الحسنة : التصانيف في جميع العلوم النافعة الشرعية على اختلاف فنونها ، وتقرير قواعدها ، وتقسيمها ، وتقريرها ، وتعليمها ، وكثرة التفريعات وفرض المسائل التي لم تقع ، وتحقيق الأجوبة فيها ، وتفسير الكتاب العزيز ، وأخبار النبوة ، والكلام على الأسانيد والمتون ، وتتبع كلام العرب نثره ونظمه ، وتدوين كل ذلك ، واستخراج علوم جمة منه كالنحو والمعاني والبيان والأوزان ، فذلك وما شاكله معلومٌ حسنُه ، ظاهرةٌ فائدته ، معين على معرفة أحكام الله تعالى وفهم معاني كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل ذلك مأمور به ، ولا يلزم من فعله محذور شرعي " انتهى من " الباعث " (ص/24) .
وللمزيد يرجى النظر في الفتاوى ذوات الأرقام : (205) ، (864) ، (10262) ، (126571).
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة