هل صحيح أنه لا يجب على المرأة أن تحتجب من العبد المملوك؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يبقى الحكم على ما هو عليه حتى بعد أن يُعتق ؟
حكم حجاب المرأة أمام عبدها المملوك
السؤال: 184458
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
اتفق العلماء على وجوب احتجاب المرأة وعدم إبداء زينتها إلا أمام من ذكروا في قوله تعالى : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ) النور/31 .
ومن ثم فقد اتفقوا على وجوب احتجاب المرأة أمام العبيد الأجانب الذين لا تملكهم ، لكن وقع الخلاف في وجوب احتجاب المرأة من عبدها الذي تملكه على أقوال منها :
الأول : جواز أن تظهر المرأة أمام مملوكها بما تظهر به عادة أمام المحارم ، وإلى ذلك ذهب بعض الشافعية والمالكية والحنابلة ، واستدلوا لذلك بقوله تعالى : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ .. ) إلى قوله ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) النور/31 .
وبما روي عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ كَانَ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا ، قَالَ : وَعَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا ، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ : ( إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ ) .
أخرجه أبو داود (4106) وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود ” (4106) .
وبما روي عَنْ نَبْهَانَ مُكَاتَبِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ : سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ ) .
أخرجه أبو داود (3928) ، والترمذي ( 1261) وقال : حسن صحيح ، وضعفه الألباني في “إرواء الغليل ” (1800) .
وقالوا أن هذا الحديث دل بمفهومه على عدم وجوب احتجابها منه إذا لم يكاتب ولم يجد مال الكتابة .
قال ابن العربي في “أحكام القرآن ” (3/387): ” وأطلق علماؤنا المتأخرون القول بأن غلام المرأة في ذوي محارمها يحل منها ما يحل لذي المحرم ، وهو صحيح في القياس ” انتهى .
وقال المرداوي في الإنصاف (8/20) : ” والصحيح من المذهب ( أي الحنبلي ) أن للعبد النظر من مولاته إلى ما ينظر إليه الرجل من ذوات محارمه ” انتهى .
القول الثاني : أن المرأة يجب أن تحتجب أمام مملوكها وأنه لا يجوز له النظر إليها ، وإلى هذا ذهب فريق من العلماء منهم جمهور السلف كابن مسعود ومجاهد وعطاء والحسن وابن سيرين وطاووس وسعيد بن المسيب والشعبي وهو قول أبي حنيفة وأحمد والشافعي في رواية .
واستدلوا بعموم الأدلة على منع الرجال من النظر إلى النساء ، ووجوب احتجاب المرأة منهم ، وقالوا : إن العبيد رجال فحول والشهوةُ متحققة فيهم ، وهم ليسوا أزواجًا ولا محارم ، بل أجانب ؛ فحرمة زواج المرأة من مملوكها لا تجعله محرمًا لها ؛ لأن هذه الحرمة ليست على التأبيد وإنما هي حرمة مؤقتة عارضة بسبب الرق ؛ بدليل أنه يجوز له أن يتزوجها إن تحرر ؛ ومن ثم فلا يحل للعبد النظر إلى مولاته ، ولا يجوز لها التكشف وإبداء الزينة أمامه .
وتأولوا آية سورة النور بأنها في حق الإماء الإناث فقط دون الذكور ، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ” لا تغرنكم آية النور فإنما عني بها الإماء ، ولم يعن بها العبيد ” انظر : تفسير ” الجامع لأحكام القرآن ” للقرطبي (12/234) .
قال الجصاص في ” أحكام القرآن ” (3/463) : ” قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب : إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته ، وهو مذهب أصحابنا ، إلا أن يكون ذا محرم .
وتأولوا قوله: ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) على الإماء ؛ لأن العبد والحر في التحريم سواء ، فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها ، فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها ، وكمن عنده أربع نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن ، فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريمًا مؤبدًا كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين .
وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم ) والعبد ليس بذي محرم منها ، فلا يجوز أن يسافر بها ، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي .
فإن قيل : هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع .
قيل له : ليس كذلك لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ ) وأراد بهن الحرائر المسلمات ، فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها ، فأبان تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء ، وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنّ ..) إلى آخر ما ذكر ، فكان جائزًا أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم ، فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم ، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله : ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ) يقتضي الحرائر دون الإماء ، كما كان قوله : ( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ..) النور/ 32 ، على الحرائر دون المماليك ، وقوله: ( شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) الأحرار ؛ لإضافتهم إلينا ، كذلك قوله : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ) على الحرائر ، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر ” انتهى .
وأجاب أصحاب القول الثاني كذلك عن حديث أنس بأنه واقعة حال ، وبأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وغلامك ) يدل بظاهره على أن هذا المملوك كان صغيرًا .
وأجابوا عن حديث أم سلمة بأنه ضعيف لا يصح لجهالة نبهان مولى أم سلمة راوي الحديث ، وقد نقل البيهقي في سننه (10/327) عن الشافعي قوله : ” لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث ” انتهى .
القول الثالث : أجاز فريق من العلماء أن ينظر المملوك إلى الوجه والكفين من مولاته للحاجة فقط ، وأنه بذلك لا يعد كمحارمها ، فلا يجوز له الخلوة بها ولا السفر معها ، ولعل هذا هو أعدل الأقوال وأوسطها وأقربها جمعًا للنصوص .
قال ابن قدامة في المغني (7/459) : ” وعبد المرأة له النظر إلى وجهها .. وقال أصحاب الشافعي: هو محرم حكمه حكم المحارم من الأقارب ، في أحد الوجهين ؛ ولأنه محرم عليها ، فكان محرمًا كالأقارب .
ولنا ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سفر المرأة مع عبدها ضيعة) رواه سعيد ؛ ولأنها لا تحرم عليه على التأبيد ، ولا يحل له استمتاعها ، فلم يكن محرمًا كزوج أختها ؛ ولأنه غير مأمون عليها ، إذ ليست بينهما نفرة المحرمية ، والملك لا يقتضي النفرة الطبيعية ، بدليل السيد مع أمته ، وإنما أبيح له من النظر ما تدعو الحاجة إليه ، كالشاهد والمبتاع ونحوهما ، وجعله بعض أصحابنا كالأجنبي ، لما ذكرناه ، والصحيح ما قلنا إن شاء الله تعالى ” انتهى باختصار .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” وعلى هذا فقوله : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها . وفيه قولان : قيل المراد الإماء ، والإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب ورجحه أحمد وغيره .
وقيل : هو المملوك الرجل : كما قاله ابن عباس وغيره ، وهو الرواية الأخرى عن أحمد . فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، وقد جاءت بذلك أحاديث وهذا لأجل الحاجة ؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب ، فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى ، وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرمًا يسافر بها ، كغير أولي الإربة ، فإنهم يجوز لهم النظر وليسوا محارم يسافرون بها ، فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها ولا الخلوة بها ، بل عبدها ينظر إليها للحاجة وإن كان لا يخلو بها ولا يسافر بها ، فإنه لم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:( لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم ) فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق ، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها ، والمحرم من تحرم عليه على التأبيد ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (22/111) .
وإذا تحرر هذا العبد ولم يعد ملكًا للمرأة ، فلا خلاف في وجوب احتجاب المرأة منه ، وأنه لا يجوز له أن ينظر إليها ، بل يحرم عليه ذلك ؛ لأنه صار كغيره من الرجال الأجانب ، إلا إن كان من التابعين غير أولي الإربة أو من الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : ” فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى أن ينظر لسيدته ، ما دامت مالكة له كله ، فإذا زال الملك أو بعضه لم يجز النظر ” .
انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ” ص515.
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب