0 / 0

شكوك في تاريخ تدوين الفقه

السؤال: 184835

منذ أن اعتنقتُ الإسلام بدأت الوساوس والتساؤلات ترد إلى ذهني واحدة تلو الأخرى ، فأريد توضيحاً للآتي : من أين أتى الفقهاء التابعون لعصر الصحابة بهذا الفقه المدوّن في كتبهم ، ما الأسباب التي دفعتهم إلى تأليف هذه المؤلفات ، ولم لم يؤلف الصحابة أنفسهم في هذا الشأن إذا كان الأمر بهذه الأهمية ، إذا كان الصحابة أعلم الناس بالشريعة – وهم بلا شك كذلك – فلماذا لم يؤلّفوا ، اعلم أن هذه وساوس ، فكيف أتعامل معها ؟ .
إنني أعيش بمفردي حيث لا يوجد علماء ، هل يلزمني البحث عن أهل العلم وسؤالهم عن هذه التفاصيل والتساؤلات ؟ ، أم الأفضل أن أتناسى هذا كله ، وأنصرف إلى أمور أخرى ، وهل آثم إن تركت السؤال عنها ؟ ، فالله تعالى يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا نكتمك الحقيقة أننا في استغراب بالغ من هذا السؤال الذي أوردته على وجه الشبهة أو على وجه الوسواس على حد تعبيرك ، فالعلوم الإنسانية كلها هي نتاج اجتهادات فكرية وعلمية بشرية تتراكم عبر العصور ، وتمر بمراحل من التمحيص والتدقيق والمراجعة ، ولا تكاد تدون إلا بعد عشرات السنين من تداولها في أذهان الناس ومحاوراتهم ، فتدوين العلم مرحلة متأخرة دائما على نشأة العلم نفسه ، وفي كل زمان تدون علوم جديدة ، بل وتنبثق تخصصات حديثة لم تكن مؤطرة ولا مقننة في العهد القديم .
وتأمل سريع في التخصصات العلمية والإنسانية الحديثة التي تخصص لها مساقات دراسية في جامعات اليوم يدلك على هذه الحقيقة ، فهل من المعقول أن تتناسى هذا البناء الطبيعي للعلوم ، وتلك التركيبة المنطقية لتطورها ، ثم تشتغل بتساؤل لا يقدم ولا يؤخر لتبحث عن سر تدوين هذا العلم هذا العام دون غيره ، ألا ترى أن هذا التساؤل أو ” الوسواس ” يمكن أن يرد في جميع السنوات وفي جميع العلوم أيضا ، ففي كل سنة يدون فيها علم جديد أو يفتتح فيها تخصص حديث تقول : لماذا لم يتم ذلك في عهد مضى وسبق .
إن أحدا من الباحثين في ” تاريخ العلوم ” لم يرد إلى ذهنه أن يكون ” التاريخ ” عقدة باعثة على الشك والتردد ، بل باعثة على التأمل في العوامل التي بها نضج العلم وبلغ بها مرحلة التدوين ، حتى التدوين نفسه يمر بمراحل عديدة ، ويلاحظ الباحثون فيها التقدم والتطور والتخصص أكثر فأكثر ، لذلك نحن ننصحك بالقراءة في الموسوعات العلمية التي تحدثت عن جميع العلوم ، لترى التشابه العام في حركتها عبر التاريخ ، وتنظر كيف أن علوم اللغة واللسانيات على سبيل المثال لم تكن مدونة رغم أهميتها وارتباطها بحياة الناس اليومية ، ثم بدأ التدوين بأشكال بدائية تقتصر على شيء من الأشعار والرسوم البسيطة ، ثم يبدأ تقنين قواعد اللغة بشكل مجمل أيضا ، لتقرر بعد ذلك تفريعات علوم اللغة إلى قواعد النحو والصرف والبلاغة والمفردات والشعر والنثر وغيرها.
ولعل الاطلاع على المراجع الآتية يفيد في فهم فلسفة العلوم : ” موسوعة تاريخ العلوم العربية ” من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية ، ” قصة الحضارة ” لويل ديورانت ، ” تاريخ العلم ” لجورج سارتون ، ” دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ” للدكتور أحمد عطية ، ” أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين ” للدكتور محمد محاسنة .
لذلك نقول لك أيضا ، إن علوم الفقه بدأ تدوينها في عهد الصحابة الكرام أيضا ، تمثل ذلك في بعض الصحف القديمة المختصرة التي دون فيها الصحابة أحكاما فقهية تناقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتاب أبي بكر الصديق في أمور الصدقات والزكوات ، وكتاب عمرو بن حزم في الديات (ص/139) ، وصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فيه بعض أحكام الحرم وأحكام الديات وغيرها ، وقد كان يحتفظ بها في قراب سيفه (ص/127) ، وكتاب أنس بن مالك رضي الله عنه في سنة عمر (ص/102) ، ومنسك جابر بن عبدالله في الحج (ص/104) ، وكتاب الحسن بن علي في قول أبيه في خيار البيع (ص/107) ، وكتاب زيد بن ثابت في فريضة الجد لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (ص/108) ، وهو أول من ألف في الفرائض ، وصحيفة عبدالله بن عمرو في المغازي ، وصحيفته الصادقة أيضا (ص/124) ، وكتاب معاذ بن جبل في الصدقات (ص/140) ، وهكذا يمكن الاطلاع عليها كلها – وبجانبها أرقام الصفحات – في كتاب الدكتور محمد مصطفى الأعظمي ” دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه ” (ص/92-142) .
كما إن نظرة فاحصة في الدواوين التي نقلت آثار الصحابة الكرام ، كمصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، و “المحلى ” لابن حزم ، و” السنن الكبرى ” للبيهقي ، وغيرها تدلك على كثير من الفقه والأحكام الشرعية التي كان الصحابة يتناقلونها ويتدارسونها فيما بينهم ، وأن من جاء بعدهم من التابعين وأتباعهم إنما استقوا عنهم ، وحملوا ما سمعوه منهم فأضافوا إليه ، وقرروه بأوجه شتى ، وحققوا ما فيه ، وفرعوا عليه ، ليؤخذ فيما بعد إلى بطون الكتب والمدونات الفقهية الكبيرة .
ثم إن من المعلوم أيضا أن الأعلمية لا ترتبط بالتأليف لزوما ضروريا ، فالأعلم كثيرا ما ينحو منحى العمل والتعليم وبث الوعي في نفوس الناس ، فيطغى ذلك على جانب التأليف والكتابة ، خاصة في القرون الأولى التي تذهب فيها الأجيال الأولى وقودا لإنجاح الدعوة والفكرة ، وتلك حكمة نراها ماثلة في جميع دعوات الأنبياء السابقين ، لا يشتغل أصحابهم بالكتابة بقدر ما يشتغلون في التعليم ونشر الدين ، في عصور لم تكن الكتابة والتأليف وسيلة كبيرة الجدوى ، لضعف النشر وعدم توفر أدوات الكتابة والقراءة لكل أحد ، فمن يحاكم ذلك الزمان بما في زماننا من وسائل المعرفة الحديثة فقد أبعد النجعة في موازينه ومقاييسه .
وما سبق جميعه يدفعك إلى بذل مزيد من العناية لتحصيل أسباب العلم الشرعي ، وذلك بالقراءة الفاحصة ، وتنويع مصادر المعرفة ، والارتباط بأهل العلم والفكر الذين تستعين بهم في الفهم والتحليل والجواب على المشكلات .
من المراجع المفيدة ” المدخل الفقهي العام ” للشيخ مصطفى الزرقا (1س/173-202)، ” خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي ” للشيخ عبدالوهاب خلاف .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android