الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
من الأمور الواجبة على الوالد نحو ولده ، في كفالته ، وقيامه على شأنه ، أن ينفق عليه النفقة التي يحتاجها ، من مطعم ، وملبس ، ونحو ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ) رواه أبوداود (رقم/1692) وحسنه الألباني في ” صحيح أبي داود ” .
والتضييع كلمة مطلقة تشمل كل ضيعة تأدبية ، أو تعليمية ، أو مالية ، أو غير ذلك من تضييع حقوق الأبناء على الآباء .
وإذا كان تقدير نفقة الزوج على زوجته وأبنائه من جهة الطعام والشراب واللباس تتغير بتغير الزمان والمكان وبحسب الوسع والقدرة ، فمن باب أولى أن يتغير مستوى التعليم الواجب ، فكان في العصور السابقة مقتصرا على تعليم الفرائض والواجبات ، وأصبح اليوم شاملا للتعليم الجامعي الضروري ، إذ كلما تقدمت الأمم وارتفع الحد الأدنى من التعليم زادت مسؤولية الوالدين في رعاية أبنائهما على هذا الصعيد ، وصار الحد الأدنى هو المعروف بين الناس ، فالعادة محكمة ، والعرف له سلطانه وتأثيره .
وقد قال الفقهاء المتقدمون بأنه يجب على الوالد العمل على تعليم ولده حرفة أو صنعة يتكسب بها في كبره ، ويجب أن تكون مناسبة لقدره الاجتماعي والمالي ، فقال الإمام الرملي الشافعي رحمه الله : ” يسلمه ، وجوبا ، لتعليم حرفة على ما يليق بحال الولد ، وظاهر كلام الماوردي أنه ليس لأب شريف تعليم ولده صنعة تزريه ؛ لأن عليه رعاية حظه ، ولا يكله إلى أمه لعجز النساء عن مثل ذلك ، وأجرة ذلك في مال الولد إن وجد ، وإلا فعلى من عليه نفقته ” انتهى من ” نهاية المحتاج ” (7/233) .
فلا يستبعد أن يقال اليوم إن تعليم الحرفة اللائقة تقتضي إكمال الدراسة الجامعية ؛ فالوظائف والأعمال اللائقة اليوم لا يتولاها سوى الخريج الجامعي الذي يحمل شهادة معتمدة ، ومن قصر والده في توفير هذا الحق له ، فغالبا ما يضطر إلى أعمال تزري به ، على حد تعبير الإمام الرملي رحمه الله .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي :
” نحن إخوة وتعلمنا التعليم الجامعي ، ووالدنا على قيد الحياة ، ما عدا الأخ الأصغر لنا ، الذي كان في المرحلة الثانوية وقت وفاة الوالد عليه رحمة الله ، فهل مصاريف دراسته على حساب ميراثه الشرعي أم لا ؟
فأجاب رحمه الله تعالى :
مصاريف دراسة هذا الشاب كمصاريف أكله وشربه ولباسه ونكاحه ، تكون على ماله ، سواء كان من مال عنده سابق ، أو كان من حصته في ميراث والده ، أما لو فرض أنه ليس عنده شيء ، وأن والده لم يخلف شيئاً ، فإن مصاريفه تكون على من تلزمه نفقته من أقاربه ” .
انتهى من ” فتاوى نور على الدرب ” .
ثانيا :
لذلك فالذي نراه أن والدك قد وقع في الظلم تجاهك من جهتين :
الأولى : تقصيره في حثك على استكمال التعليم الجامعي المحافظ ، والإنفاق عليك إلى بلوغ هذا القدر الضروري في مجتمعاتنا وحياتنا اليوم .
الثاني : منعه لك من تحقيق رغبتك في التعليم ، رغم استغنائك عن نفقته عليك لهذا الغرض ، وتوفر الشروط الشرعية في الجامعة المطلوبة ، وتمسكك بالضوابط الشرعية ، وقد رفض الفقهاء هذا القدر من تسلط الآباء على أبنائهم ، وقالوا إنه ليس من حق الوالدين منع أبنائهما من طلب العلم أو التحكم في هذا الشأن ، وقد تقدم بسط ذلك في موقعنا في الجواب رقم : (178363) .
جاء في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (2/128-129) لابن حجر الهيتمي رحمه الله :
” إذا ثبت رشد الولد – الذي هو صلاح الدين والمال معا – لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه دينا أو دنيا ، ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب مع العلم بصلاح دين ولده وكمال عقله ،
وحينئذ لا نظر لكراهة الوالد له ، حيث لا حامل عليها إلا مجرد فراق الولد ؛ لأن ذلك حمق منه ، وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه ، أخذا مما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته ، ولقد شاهدت من بعض الآباء مع أبنائهم أمورا في غاية الحمق ، التي أوجبت لكل من سمعها أن يعذر الولد ، ويخطِّئ الوالد فلا يستبعد ذلك.
ومع ذلك كله فليحترز الولد من مخالفة والده ، فلا يقدم عليها اغترارا بظواهر ما ذكرنا ، بل عليه التحري التام في ذلك ، والرجوع لمن يثق بدينهم وكمال عقلهم ، فإن رأوا للوالد عذرا صحيحا في الأمر أو النهي وجبت عليه طاعته ، وإن لم يروا له عذرا صحيحا لم يلزمه طاعته ، لكنها تتأكد عليه حيث لم يترتب عليها نقص دين الولد وعلمه أو تعلمه ” انتهى .
ثالثا :
لعلاج هذه المشكلة : لا بد فيه من بذل جميع الأسباب التي يمكن أن تقنع الوالد بقضيتك ، من خلال توسيط أهل الخير ، والاستعانة بأقاربك من أعمامك وكل من له صلة وثيقة بالوالد ، والاستمرار في الحوار ومحاولة الإقناع ، وإعانته على الرفق بك في ذلك ، بتمام بره والإحسان إليه ، وقبل ذلك كله : سؤال الله تعالى الفرج والتيسير .
فإن لم يقبل الوالد ذلك ، فبالإمكان التوصل معه إلى قبول الدراسة بنظام الانتساب ، والذي لا يلزمك بالحضور في جميع المحاضرات ، فلعل الوالد يخشى عليك من الخروج والاختلاط الزائد بالناس .
وإن لم يقبل ذلك أيضا ، فهناك جامعات عديدة معترف بها ، وفي تخصصات مختلفة ، تتم الدراسة بها عن بعد ، عن طريق الانترنت ، وتعطي شهادة معتمدة ، حتى الدكتوراه .
وعلى فرض عدم تمكنك بعد كل المحاولات فليس ذلك نهاية المطاف ، ولا هو سبب الشقاء والتعاسة ، وفضل الله أوسع من أن يحصر في الدراسة الجامعية ، فلا تتركي نفسك نهبة للشيطان وأسيرة للوساوس والمشاعر السلبية ، واعلمي أن الله عز وجل يقول : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة/216.
والله أعلم .