الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
المال المكتسب نتيجة الغش أو الكذب والتزوير هو مال حرام ، لا يحل أكله ولا الانتفاع به ؛ بل الواجب رده إلى مالكه وطلب العفو والصفح منه ، كي تبرأ الذمة بيقين ، سواء كان مالكه مسلما أم كافرا ، فحرمة مال الذمي أو المعاهد من غير المسلمين كحرمة مال المسلم ، فقد تبرأ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ممن اعتدى على مال غير المسلمين وقال: ( أَمَّا المَال فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ ) رواه البخاري (رقم/2731) ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ” يستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا ” انتهى من ” فتح الباري ” (5/341) .
فالتوبة النصوح تقتضي منك الحرص على مصارحة شركتك ، إذا كان ذلك ممكنا ، أو على الأقل قطع ما يَرِدُك من ذلك المال المحرم ، وعدم الاستمرار في أكله من الشركة بغير وجه حق ، فأول شروط التوبة النصوح الإقلاع عن الذنب وتركه على الفور ، وما دمت تستوفي تلك العمولة المحرمة فنخشى أن تكون في حكم المستمر على إثمه ومعصيته .
وأما ما ذكرته عن تعويض الشركة من خلال جلب بعض الزبائن ، وعدم أخذ مستحقاتك عليهم من العمولة ، فينبغي أن يكون محله عند العجز عن رد المال المقبوض بغير حق إلى الشركة ، أو إيقافهم على حقيقة الأمر ، ليقرروا فيه ما يرون .
فإن لم تتمكن من ذلك ، فنرجو أن يكون الخيار المذكور مكافئا لما وقعت فيه من التحيل لأخذ ما لا يحق لك ، وأن يكون ذلك كفارة للمال الحرام الذي أكلته منهم ، إذ به يحصل التعويض ، ويرجع الحق لأصحابه ، بشرط أن تتحقق من تساوي المال الذي أخذته بغير حق ، مع المال الذي كنت تستحقه على الزبائن الذين لم تسجلهم باسمك ، فإن كان ما أخذته أكثر ، فاجتهد في رد الزائد بحيلة مناسبة للشركة ، أو في جلب زبائن آخرين لها ، حتى يتساوى الأمران ، وتعلم أنك رددت الحق ، أو ما يقابله ، إلى أهله .
كما فتح الفقهاء رحمهم الله بعض أبواب التيسير على من يريد التخلص من المال الحرام في صور عديدة ، منها قول ابن القيم رحمه الله : ” هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ، ثم أراد التخلص منه ، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ، ولا استوفى عوضه رده عليه ، فإن تعذر رده عليه ، قضى به دينا يعلمه عليه ، فإن تعذر ذلك ، رده إلى ورثته ، فإن تعذر ذلك ، تصدق به عنه ، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة ، كان له ، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض ، استوفى منه نظير ماله ، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها ، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم .
وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم ، كمن عاوض على خمر أو خنزير ، أو على زنى أو فاحشة ، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع ؛ لأنه أخرجه باختياره ، واستوفى عوضه المحرم ، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوَّض ، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان ، وتيسير أصحاب المعاصي عليه .
وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله ! فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به ، ولا يسوغ القول به ، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر ، ولكن لا يطيب للقابض أكله ، بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن خبثه لخبث مكسبه ، لا لظلم من أُخذ منه ، فطريق التخلص منه ، وتمام التوبة بالصدقة به ، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ، ويتصدق بالباقي ، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه ، عينا كان أو منفعة ، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ، ولا يجب رده على دافعه ” .
انتهى من ” زاد المعاد ” (5/690-691) .
وقد سبق في موقعنا تقرير مجموعة من الأجوبة على تلك القواعد ، منها جواب السؤال رقم : (98723) ، (178442) ، (179432) .
هذا مع أن الذي ننصحك به هو سلوك سبيل الورع والتقوى ، والاعتراف إلى الشركة بحقيقة الأمر ، أو طلب قطع العمولة المحرمة ، على أقل تقدير ، تحت أي عذر.
ولتعلم ، يا عبد الله ، أن ” الصدق منجاة ” لصاحبه ، وإذا قدر أنه قد حصل ما تخافه من طردهم لك ، فلعل الله أن يبدلك خيرا من ذلك ؛ قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الأنفال/70-71 ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/2-3 .
والله أعلم .