لقد قرأت كل الفتاوى على موقعكم بخصوص سن أمنا عائشة رضي الله عنها عند الزواج ، وقد قرأت أيضاً كتاب ” السَّنَا الوَهَّاج في سن عائشة عند الزواج “، وكتاب ” زواج السيدة عائشة ومشروعية الزواج المبكر والرد على منكري ذلك “. وقد اقتنعت بعدم صلاحية كتب التراجم في تحديد سن السيدة عائشة عند الزواج .
لكن أحداً لم يناقش أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وقد جمعتها ووجدت أن في كل سند منها أحدا فيه شبهة في عدالته .
سؤالي عن الأربعة طرق الأشهر
1) عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ.
2) هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
3) الزهري عن عروة عن عائشة.
4) مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ وَيَحْيَى.
الأعمش مدلس ، الزهري مدلس ، محمد بن عمرو ضعيف ، هشام بن عروة ( قيل فيه اختلط/ساء حفظه/كان يدلس ). ومالك لم يقبل روايته بعدما صار إلى العراق ، مع العلم أن كل الذين حدثوا عن هشام هذا الحديث من أهل العراق ، أو سافروا إلى العراق.
جَرِيرٌ = نشأ بالكوفة ، عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ =الكوفة ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ =الكوفة ، أَبُو مُعَاوِيَةَ=الكوفة ، أَبِي أُسَامَةَ =الكوفة ، وكيع=الكوفة ، يَحْيَى بْنُ هَاشِمٍ=بغداد-الكوفة ، حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ=البصرة ، جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ=البصرة ، حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ=الكوفة ، وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ=البصرة ، أَبَانٌ الْعَطَّارُ =البصرة ، يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ=الكوفة ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا =الكوفة ، عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ =الكوفة ، إلا واحد من أهل المدينة ، وهو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ= ضعيف.
لماذا لا يوجد سند واحد ليس فيه أي شبهة . أين ثقات وأئمة المدينة . ألم يسمع منهم أحد هشام وهو يروي هذا الحديث . كيف نتجاهل رد الشافعي لرواية المدلس ، وعدم قبول مالك لأحاديث هشام بعد عودته من العراق .
ألا يحتمل أن يكون هؤلاء المدلسين الذين عنعنوا في كل روايات هذا الحديث قد سمعوا من شخص كذاب هو تلميذ لشيخهم فأخفوا اسم هذا الكذاب ورووا الحديث عن شيخهم .
أنا أعرف أن هذا الموضوع فتنة واختبار ، وأريد أن أخرج منه متيقنة ، وأن أجد الحق أينما كان. أرجو طرح هذه الأسانيد للنقاش حتى لا يتكلم متكلم بعد هذا في سن السيدة عائشة رضي الله عنها .
إشكالات حديثية في مرويات سن أم المؤمنين عائشة عند زواجها
السؤال: 191633
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
لا بد من تقرير أمر مهم في بداية الجواب ، سببه أننا استشعرنا في السؤال قدرا من المبالغة في خطورة المسألة ، وأنها قضية فتنة واختبار ، وحقيقة الأمر أنها مسألة علمية بحثية ، تناقش قضايا إسنادية وتاريخية ، الاختبار فيها إنما هو للعقل البحثي ، كيف يناقش ، وكيف يدرس الوثائق ويتحقق من الروايات ، ويتغلب على الأهواء أو المؤثرات ، ولا تتجاوز ذلك إلى أن تكون قضية إيمان ونقيضه ، أو فتنة ما بين الهدى والضلال ، فالأمر أيسر من ذلك ، ولا ينبغي مجاوزة أقدار المسائل في العلم كي لا تتيه الحقائق في غمرة ذلك الغلو ، بل إن المسألة لا تدخل في دائرة القطعيات المعلومات من الدين بالضرورة ، فليست قرآنا منزلا ، ولا ركنا من عقائد المسلمين .
كل ذلك نقرره كي تتناول السائلة الباحثة المسألة بقدر من الهدوء والروية ، بعيدا عن سيف الفتنة والتضليل ، وحينها ستكتشف أن تقدير مراتب العلم ، وإنزال المسائل حقها من غير إفراط ولا تفريط ، أحد أهم أسباب التوفيق إلى أصواب الأقوال بإذن الله .
ثانيا :
أما مناقشة الأسانيد الأربعة الواردة في السؤال فأمر سهل وميسور إن شاء الله .
أما إسناد الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة .
فالأعمش – وهو سليمان بن مهران (ت148هـ) – موصوف بالتدليس عند النسائي والدارقطني كما في ” طبقات المدلسين ” (ص/33) والتدليس مذموم على وجه العموم ، ولكن من عرف حقيقة التدليس وصوره وأسبابه تبين له أن من الخطأ التعامل مع جميع المدلسين بحكم مطلق واحد ترد به جميع أحاديثهم ، بل الأمر فيه تفصيل وشرح مطول ، كتبت فيه الأبحاث المطولة ، وألفت فيه المجلدات الضخام ، وليس من المقبول – في أدنى أساسيات العقول – أن ترفض كل تلك العلوم والتحقيقات في أحاديث المدلسين بجرة قلم من غير مختص ، دفعه إلى ذلك جهله بذلك العلم ، أو حبه لإثبات ما يوافق هواه ورأيه .
فإذا كان المدلس حافظا ضابطا إماما في الحديث ، فلماذا ترد جميع مروياته ، أليس التدليس – في أشهر صوره وتعريفاته – هو تحديث الراوي عن شيخ سمع منه ما لم يسمعه منه ، بصيغة محتملة كالعنعنة . فإذا تحققت الضمانة بأن هذا الراوي الثقة – وإن كان وقع في التدليس في بعض الأحيان – ولكنه في أحاديث معينة رواها على وجهها ، ولم يسقط أحدا من الرواة ، فلماذا يرد جميع حديثه حينها ؟! أليست العدالة تقتضي أن يرد الحديث الذي يغلب على الظن أنه قد دلس فيه فقط ، أما ما جاءت الأدلة بأنه لم يمارس فيه التدليس نقبله ونأخذ به !
هذا حاصل ما يقرره عامة علماء الحديث ، حتى الإمام الشافعي رحمه الله حين يقول : ” من عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته . وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق . فقلنا : لا نقبل من مدلس حديثا حتى يقول فيه ( حدثني ) أو ( سمعت ) ” انتهى من ” الرسالة ” (ص/378)
فالشافعي رحمه الله يقرر بكل وضوح أن التدليس ليس عورة ترد بها جميع الأحاديث ، وإنما ترد بها الرواية التي نخشى أن يكون دلس فيها ، فإذا قامت قرينة تنفي وقوع الراوي في تدليس حديث معين ، كأن يقول حدثني أو سمعت ، قبلنا حديثه .
وهكذا تعامل الأئمة مع أحاديث الأعمش رحمه الله ، فتشوا عن القرائن في مروياته ، فوجدوا أن الأعمش لا يدلس عن شيوخه الكبار الذين لازمهم سنوات طوالا ، وسمع منهم آلاف المرويات ، من أمثال إبراهيم النخعي الذي روى عنه هذه الرواية . لذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله : ” متى قال ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس ، إلا في شيوخ له أكثر عنهم ، كإبراهيم ، وأبي وائل صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصف محمولة على الاتصال ” انتهى من ” ميزان الاعتدال ” (2/224)
بل إن الأعمش ليس من المكثرين من التدليس ، وتدليسه قليل في جنب ما روى ، فمثله لا يرد العلماء حديثه .
قال يعقوب بن شيبة : ” سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس ، أيكون حجة فيما لم يقل ” حدثنا ” ؟ قال : إن كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول : حدثنا ” انتهى من ” الكفاية ” (362)
وقال الإمام مسلم رحمه الله : ” إنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم ، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به ، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته ، ويتفقدون ذلك منه حتى تنزاح عنهم علة التدليس “. ” مقدمة صحيح مسلم ” (1/32)
وقال يعقوب بن سفيان : ” حديث سفيان وأبي إسحاق ، والأعمش ، ما لم يعلم أنه مدلَّس ، يقوم مقام الحجة ” انتهى من ” المعرفة والتاريخ ” (2/637)
هذا هو كلام الأئمة في التدليس والمدلسين ، كله يدل على التفصيل في حكم حديث المدلس ، وليس رده مطلقا ، بل الاعتماد على القرائن هو الأساس ، ومن تلك القرائن قلة تدليس الراوي في جنب ما روى ، وهي المرتبة الثانية من مراتب المدلسين – بحسب تقسيم الحافظ ابن حجر رحمه الله – حيث قال : ” من احتمل الائمة تدليسه ، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته ، وقلة تدليسه في جنب ما روى ، كالثوري ، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة ، كابن عيينة ” انتهى من ” طبقات المدلسين ” (ص/13). وهي الطبقة التي ذكر فيها الأعمش (ص/33)
والكلام السابق أيضا ينطبق على الإمام الزهري رحمه الله ، فقد قال عنه الذهبي رحمه الله : ” الحافظ الحجة كان يدلس في النادر ” انتهى من ” ميزان الاعتدال ” (6/235)، لذلك قال الإمام العلائي رحمه الله : ” قد قبل الأئمة قوله ( عن )” ينظر ” جامع التحصيل “، وكذا قال سبط ابن العجمي في ” التبيين في أسماء المدلسين “. ولا تجد حديثا واحدا ضعفه الأئمة المتقدمون بحجة عنعنة الإمام الزهري ، بل مروياته وأحاديثه مشهورة في جميع كتب السنة من غير نكير ولا تنقير عن عنعناته . وإنما رد العلماء أحاديث محصورة معدودة ، تبين لهم أنه قد وقع فيها التدليس بخصوصها ، ولم يردوا جميع مروياته . تجد تلك المرويات في كتب ” المراسيل “.
نعم نسلم أن الحافظ ابن حجر رحمه الله عد الإمام الزهري في الطبقة الثالثة (ص/45)، وهم ” مَن أكثر مِن التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع “. ولكن الراجح ما ذكرناه آنفا عن أكثر العلماء . ينظر كتاب ” منهج المتقدمين في التدليس ” (ص/84-86)
أما الجواب عن هشام بن عروة واتهامه بالتخليط آخر عمره ، وكون جميع من روى عنه هذا الحديث من أهل العراق وليس من أهل المدينة ، فقد سبق الجواب عنها في موقعنا في الفتوى رقم : (124483)، نرجو الاطلاع عليها والتأمل في جميع أسماء الرواة المدنيين وغيرهم ، لنكتشف خطأ دعوى تفرد العراقيين عنه بهذا الحديث .
وأما الإسناد المشتمل على محمد بن عمرو ، فهو عند أبي داود في ” السنن ” (4937) يروي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة رضي الله عنها .
ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي (ت145هـ)، قال فيه ابن معين : ثقة . وقال ابن المبارك : ليس به بأس . وقال النسائي : ليس به بأس . وقال فى موضع آخر : ثقة .
وقال أبو أحمد بن عدى : له حديث صالح … أرجو أنه لا بأس به. وإنما وجد العلماء في روايته بعض الأخطاء ، فأنزلته عن درجة الحفظ والإتقان ، فقال ابن حبان : كان يخطئ . وقال أبو حاتم : صالح الحديث ، يكتب حديثه ، وهو شيخ . وقال يحيى القطان : ليس بأحفظ الناس للحديث . ينظر ” تهذيب التهذيب ” (9/376).
وهكذا تجد أن عبارات نقاد الرواة تميل إلى توثيقه مع بعض التحفظ على أخطائه ، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن ، وإنما إذا وجد في حديثه نكارة ، أو تفرد برواية معينة : يتوقف فيها حينئذ . ولكن روايته حديث عائشة هنا وافَقَه عليها غيره من الأئمة الكبار ، وليس فيها ما يستنكر لدى جميع العلماء . فدعوى ضعفه بإطلاق ، ورد جميع مروياته مخالفة للمنهجية العلمية المعتدلة .
نرجو أن يكون فيما سبق بيان للتحقيق العلمي في المسألة ، وتوضيح للعلم الحقيقي الذي يقتضيه العقل السليم والمنهج البحثي القويم ، وليس الكلام المرسل ، والتعميمات التي سببها قلة الاطلاع وعدم التخصص .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة